(6) ··· من ملكوت النهضة
الحسينيّة
--------------------------------------------------------------------------------
كلّ يوم عاشوراء :
لماذا في كلّ عام ، بل
وفي كلّ يوم نجدّد قضيّة
عاشوراء وواقعة كربلاء
بالأحزان والآلام
والمصائب، ونتأمّل في
شهادة سيّد الشهداء
الإمام الحسين
عليهالسلام ،
ونتفاعل مع ما جرى على
أهل بيته من القتل وسبي
النساء الطاهرات ،
مخدّرات
الرسالة والعصمة ؟ فنذرف
الدموع ونلطم الصدور
ونشقّ الجيوب ونضرب
الهامات ؟ !
أجل لقد مرّت القرون
والأحقاب على حادثة الطفّ
الأليمة ، والمفروض أن
تكون بحكم الحوادث
التاريخيّة الاُخرى التي
أكل عليها الدهر وشرب ،
فإنّها وإن
كانت عظيمة المأساة
والآلام ، إلاّ أنّ لنا
في التاريخ وقائع
مأساويّة عظيمة الرزيّة
كبيرة المصيبة أيضا .
فكيف بحادثة عاشوراء
تتجدّد في كلّ عام بمظاهر
الحزن
والألم ، ويتفاعل معها
الناس من كلّ الطبقات
شيبا وشبّانا ، بل وحتّى
الأطفال
والنساء في كلّ عصر ومصر
، فما من شخص ـ وإن لم
يكن مسلما ـ سمع قصّة
كربلاء إلاّ وانصهر في
بوتقتها الحزينة ،
واغرورقت عيناه ، واختنقت
عبرته ،
وجرت دموعه على وجناته ،
ليعبّر عن تفاعله
واندماجه في فضاء عاشوراء
وحوادث كربلاء .
فما هو السرّ في ذلك ؟ ؟
ولماذا نجدّد الحزن في
كلّ عامّ في محرّم الحرام
وفي شهر صفر وبهذا الزخم
والدعم ؟ ولماذا نحيي
قصّة كربلاء وشهادة
الإمام
الحسين عليهالسلام بهذه
الضخامة التي لا مثيل لها
في كلّ الملل والنحل ؟
فلماذا هذه
الشعائر الحسينيّة في كلّ
عام ؟ حتّى اتهّمنا
الأعداء بشتّى التهم ،
ووصفنا بالجنون
والتخلّف والرجعيّة ،
إلاّ أنّ الجواب واضح
جدّا ، فإنّه ما كان ذلك
منّا إلاّ اقتداءً
من ملكوت النهضة
الحسينيّة ··· (7)
--------------------------------------------------------------------------------
وتأسيّا بالشهيد بكربلاء
عابس الشاكري ، حيث قيل
له عندما دخل المعركة
خالعا
اللبوس والدرع : أجننت ؟
فقال : أجنّني حبّ الحسين
.
فلماذا كلّ يوم عاشوراء ،
وكلّ أرضٍ كربلاء ؟
نقف على الجواب إجمالاً
من خلال النقاط التالية :
1 ـ لمّا كانت العترة
الطاهرة ـ بنصّ حديث
الثقلين الثابت عند
الفريقين ـ
عدل القرآن الكريم وشريكه
وصنوه ، فإنّ كلّ ما دلّ
عليه القرآن الكريم
بالدلالة
المطابقيّة يدلّ على
الأئمّة الأطهار
عليهمالسلام بالدلالة
الالتزاميّة ، وكلّ ما
دلّ على
الأئمّة الأطهار بالدلالة
المطابقيّة دلّ على
القرآن بالدلالة
الالتزاميّة ؛ لأ نّهما
لن
يفترقا في كلّ شيء من
البداية حتّى النهاية ،
تمسّكا بحديث الثقلين
الثابت متواترا
عند الفريقين السنّة
والشيعة ، فإنّ النبيّ
قال في مواطن عديدة : «
إنّي تارك
ـ مخلّف ـ فيكم الثقلين :
كتاب اللّه وعترتي أهل
بيتي ، لن يفترقا حتّى
يردا عليّ
الحوض ، ما إن تمسّكتم
بهما لن تضلّوا بعدي أبدا
» .
ثمّ القرآن الكريم ـ كما
في الحديث عن الإمام
الصادق عليهالسلام ـ غضّ
جديد
لا يبلى ، لأ نّه لكلّ
زمان ومكان وللأجيال
جميعا ، فكذلك الأئمّة
الأطهار عترة
الرسول المختار
عليهمالسلام ، فإنّ
سيرتهم الذاتيّة ،
وحياتهم المشرقة ،
وأحاديثهم
النورانيّة ، غضّة جديدة
لكلّ الأعصار والأمصار
وللبشريّة جمعاء .
ومن ثمّ قضيّة سيّد
الشهداء ونهضته في كربلاء
وإن وقعت سنة 61 هجريّة ،
إلاّ أ نّها غضّة وجديدة
لا تبلى ، وأ نّها خالدة
بخلود القرآن الكريم .
فكلّما تتلو
القرآن تشتاق إلى تلاوته
مرّةً اُخرى ، وإنّه
يختلف عن كلّ كتاب آخر ،
فإنّه
المهيمن على الكتب
الاُخرى ، ومن الواضح أنّ
القصّة مهما كانت جميلة
ومشوّقة ،
فإنّها ما تقرأها مرّات
أو تسمعها مرارا ، إلاّ
وتملّ منها ، بخلاف
القرآن الكريم ،
(8) ··· من ملكوت النهضة
الحسينيّة
--------------------------------------------------------------------------------
وكذلك واقعة الطفّ
الأليمة فإنّك لو سمعتها
وقرأتها كلّ يوم تجدها لا
زالت جديدة
وتعيش الحاضر ، ومن هذا
المنطلق يقول صاحب الأمر
عليهالسلام في زيارة
الناحية :
« لأندبنّك صباحا ومساء ،
ولأبكينّك بدل الدموع دما
» .
2 ـ في كلّ عام ، وفي
ليلة القدر خاصّة ،
تتنزّل الملائكة والروح ـ
وهو ملك
أعظم من جبرائيل وميكائيل
ـ على صاحب الأمر
عليهالسلام وتعرض عليه
مقاليد
السماوات والأرض بإذن
اللّه سبحانه ، كما
تنزّل عليه تفسيرا
وتأويلاً جديدا
للقرآن الكريم ، فإنّه
يحمل وجوها وبطونا ومعاني
لا يعلمها إلاّ اللّه
سبحانه ، ففي
كلّ سنة للقرآن تفسير
جديد ، يلهم به صاحب
الأمر عليهالسلام ، ومن
ثَمّ يُلهم به
المفسّرون للقرآن الكريم
بعد ارتباطهم وعلقتهم
الروحيّة والطينيّة
بينهما
ـ والتفسير رفع القناع عن
الظواهر ، والتأويل رفع
القناع عن البواطن ـ ففي
كلّ
سنة نشاهد تفسيرا
وتأويلاً للقرآن الكريم ،
يتماشى مع كلّ زمان ومكان
، ومع
التجدّد والحضارات ،
وكذلك قصّة عاشوراء وثورة
الإمام الحسين وما فيها
من
الأهداف والغايات
والمعاني السامية ،
فإنّها تتجدّد في تفسيرها
وتأويلها ، وتتطوّر
في معانيها ومفاهيمها ،
فلا بدّ أن نطرحها بثوبها
الجديد ، بنظرة ملكوتيّة
اُخرى ،
ولا نكتفي بسرد قصّة
عاشوراء .
3 ـ منذ أن خلق آدم من
تراب وطين ، بدأ الصراع
بين الحقّ والباطل ، بين
النور والظلام ، بين
العقل والجهل ، بين الخير
والشرّ ، فتمثّل الحقّ
بآدم عليهالسلام ،
كما تمثّل الباطل
بالشيطان لعنه اللّه ،
وكان هذا الصراع على قدمٍ
وساق بكلّ ألوانه
وأشكاله عقائديّا
وسلوكيّا ودمويّا وغير
ذلك ، في كلّ زمان ومكان
، وأفضل
مصداق يقتدى به ويتأسّى
بمعالمه وعوالمه هو ثورة
الإمام الحسين
عليهالسلام ، إذ جُمع
الحقّ بكلّ أسمائه الحسنى
وصفاته العليا في الحسين
عليهالسلام ، كما جمع
الباطل كلّه
من ملكوت النهضة
الحسينيّة ··· (9)
--------------------------------------------------------------------------------
بكلّ مظاهره من الكفر
والنفاق والإلحاد
والرذائل والقبائح في
يزيد اللعين ، فخير
مثال للصراع بين الحقّ
والباطل وخير نموذج
للثوّار الأحرار هو
عاشوراء
الحسين عليهالسلام .
4 ـ كتب على عرش اللّه
بلون أخضر : « الحسين
مصباح الهدى وسفينة
النجاة » وإنّ سفينته
أوسع وأسرع ... وتتجلّى
قمّة سيرة الإمام الحسين
عليهالسلام في
عاشوراء(1) ، ولمثل هذا
نتفاعل في كلّ يوم مع
قصّة عاشوراء لنهتدي
بمصباحه ،
وننجو بسفينته ، ونقتدي
بهداه ، ونسير على خطّه ،
وصراطه المستقيم ومنهجه
القويم .
5 ـ من المعروف الواضح
أنّ التاريخ يعيد نفسه ،
فإنّه يعاد الفيلم بين
جيل
وجيل ، إلاّ أ نّه بأبطال
آخرين ، وحينئذٍ خير قدوة
واُسوة ، وأفضل فلم
تاريخي
يؤخذ منها المن ملکوت النهضة الحسینیّةوالعبر
هو قصّة عاشوراء ، فإنّ
حادثة كربلاء خالدة ما
دام
التاريخ يعيد نفسه .
6 ـ إنّما نجدّد حادثة
الطفّ الأليمة لمعرفتنا
أنّ الإمام الحسين لم
يخرج
أشرا ولا بطرا ولا مفسدا
ولا ظالما كما قال
عليهالسلام ، إنّما خرج
للإصلاح في اُمّة
جدّه ، وللأمر بالمعروف
والنهي عن المنكر ، لأنّ
الخطر الداهم أحدق
بالمسلمين
آنذاك ، وكان الإسلام على
شرف الزوال ، لابتلاء
المسلمين بالمثلّث
المنافق الخطر
( النفس الأمّارة بالسوء
، والشيطان الرجيم ،
والغفلة القاتلة ) وهذا
الخطر يداهمنا
حتّى اليوم المعلوم وظهور
صاحب الأمر عليهالسلام ،
فإنّه يحدق بالمسلمين ،
ففي كلّ
--------------------------------------------------------------------------------
(1) ذكرت تفصيل ذلك في
كتاب ( الإمام الحسين في
عرش اللّه ) المجلّد
السادس من
موسوعتنا ( رسالات
إسلاميّة ) فراجع .
(10) ··· من ملكوت النهضة
الحسينيّة
--------------------------------------------------------------------------------
يوم عاشوراء ، وكلّ أرض
كربلاء . فلا بدّ من
الإصلاح الاجتماعي كما
فعل الإمام
الحسين عليهالسلام ، ولا
بدّ أن يكون كلّ واحدٍ
منّا حسينيّا في مبادئه
وعقائده ، وفي
حركته ونهضته ، وعليه أن
يبدأ بالإصلاح من نفسه
ومع ربّه أوّلاً ، ثمّ
اُسرته « قُوا
أنفُسَكُمْ وَأهْلِيكُمْ
نَارا »(1) ثمّ مجتمعه
واُمّته « كلّكم راعٍ
وكلّكم مسؤول عن
رعيّته » وهذه المراتب
الإصلاحيّة إنّما
اختلافها في الرتبة ،
أمّا في مقام العمل
والتطبيق فكلّها معا
وسويّة في خطّ واحد ، كما
في العلم والتزكية في
قوله تعالى :
« وَيُزَكِّيهِمْ
وَيُعَلِّمُهُمُ
الكِتَابَ وَالحِكْمَةَ
»(2) ، فإنّ التزكية
والتعليم في اُفق واحد ،
إلاّ أنّ رتبة التزكية
لأهمّيّتها تقدّمت على
التعليم ، فتدبّر .