(54) ··· من ملكوت النهضة
الحسينيّة
--------------------------------------------------------------------------------
التعزية ملح المحاضرات
الإسلاميّة
لا يخفى أنّ للخطباء
وأصحاب المنابر الحسينية
في المذهب الشيعي
الجعفري دور بارز وهام في
توعية الجماهير وتثقيفهم
وربطهم باللّه وبرسوله
وأهل بيته الأطهار
عليهمالسلام ، لا سيّما
شدّهم وتعلّقهم بقضية
عاشوراء وواقعة كربلاء
ويوم الطف الحزين ،
وشهادة سيّد الشهداء وأهل
بيته وأصحابه الميامين ،
وإسارة
حريمه وبناته وسبي عقائل
النبوّة وبنات الرسالة .
فالخطيب اللسن في الواقع
إنّما يمثّل لسان الإسلام
لينطق بمفاهيم الثقلين
( كتاب اللّه والعترة
الطاهرة ) ويأخذ بيد
الجماهير المؤمنة ليحلّق
معهم في سماء
الفضائل وآفاق المكارم
والعلوم والآداب ، فيرث
الأنبياء كالعلماء في
مسؤوليّاتهم ووظائفهم
الدينية ، من هداية الناس
وإرشادهم وتعليمهم
وتربيتهم ،
بتزكية النفوس وتهذيب
الأرواح .
ثمّ لكلّ خطيب ومنبري
اُسلوبه ومنهجيّته في طرح
المواضيع وسرد
الحوادث والقصص
والمعلومات الدينية
واستنتاجاتها وما يترتّب
عليها من
المنافع والفوائد
الروحيّة والعلميّة
والثقافية والاجتماعية
وغيرها ، فللخطيب
حرّيته في تشكيلة خطبته
وخطاباته وكيفية الدخول
في البحث والتنقيب بذكر
آية
(55)
--------------------------------------------------------------------------------
قرآنية ثمّ تفسيرها أو
حديث شريف ثمّ بيانه
والتعليق حوله أو قصّة
تاريخية أو
بيت شعر أو قصيدة أو غير
ذلك .
هذا والخطباء على اختلاف
أذواقهم ومذاقاتهم
وثقافاتهم يشتركون في
خصلة واحدة ، ألا وهي ختم
الموضوع بقراءة ( التعزية
) والمأتم الحسيني بذكر
مصائب أهل البيت
عليهمالسلام ومظلوميّتهم
وما جرى عليهم من قبل
مناوئيهم وأعدائهم
وغاصبي حقوقهم ، فإنّهم
مشرّدون مظلومون مقهورون
، وما منهم إلاّ مسموم أو
مقتول ، ثمّ تختم المصيبة
بمصيبة سيّد الشهداء ،
فإنّها اُمّ المصائب ولا
يوم كيوم
الحسين عليهالسلام ،
فتُذرف الدموع وتنحدر على
الخدود ويعلو البكاء أو
التباكي حتّى
يضجّ المجلس بالنحيب ،
ثمّ ينتهي بالدعاء ..
أمّا البكاء والتباكي على
مصائب أهل البيت
عليهمالسلام ولا سيّما
سيّد الشهداء
الإمام الحسين
عليهالسلام فقد ورد في
فضله ورفعة منزلته أحاديث
كثيرة صحيحة
الإسناد ، كما جاء في (
كامل الزيارات ) للمحدّث
الكبير الثقة ابن قولويه
عليه
الرحمة ، فراجع .
ومن الأحاديث الشريفة
الواردة في فضل البكاء ما
يبهر القارئ والسامع ،
فإنّه من الأمر الصعب
المستصعب الذي لا يتحمّله
إلاّ ملك مقرّب أو نبيّ
مرسل أو
مؤمن امتحن اللّه قلبه
بالإيمان ، يكفيك أ نّه
من يبكي عليهم ولو بقطرة
من الدموع ،
وجبت له الجنّة .
ثمّ لا يمكن لأيّ أحد من
الخلق أن يؤدّي حقّ
الإمام المعصوم
عليهالسلام
والإمامة الحقّة ، إلاّ أ
نّه ورد عن الإمام الصادق
لسان اللّه الناطق أ نّه
من بكى على
جدّه الإمام الحسين
عليهالسلام فقد أدّى
حقّهم .
كما ورد في زيارة جامعة
أئمة المؤمنين أنّ أهل
السماء ـ أي الملائكة ـ
(56) ··· من ملكوت النهضة
الحسينيّة
--------------------------------------------------------------------------------
يتقرّبون إلى اللّه
سبحانه بمحبّة الأئمة
وولايتهم ، والبراءة من
أعدائهم ، وتواتر
البكاء في مصائبهم ، أي
يبكون متواترا بلا انقطاع
في مصائب أهل البيت
عليهمالسلام
ويتقرّبون بهذا البكاء
إلى ربّهم ، فإذا كان أهل
السماء يتقرّبون بالبكاء
فكيف لا
بأهل الأرض ، فهم أولى
بالتقرّب إلى اللّه
سبحانه بالبكاء على أهل
البيت
ومظلوميّتهم عليهمالسلام
.
والنصوص الدينية كثيرة
وجمّة في فضيلة البكاء ،
وبهذا امتازت الشيعة
الإمامية الاثنى عشريّة
بمجالس البكاء والعزاء
واللطم والنحيب وغيرها من
الشعائر الحسينية الإلهية
.
أجل إنّ ( التعزية )
وقراءتها تعدّ ملح
المجالس والمحافل ، حتّى
كبار
العلماء الأعلام كصاحب
الجواهر ، كانوا يبدأون
حلقات دروسهم بقراءة
المصيبة
على سيّد الشهداء للتيمّن
والتبرّك وإحياءً لذكرى
عاشوراء وواقعة كربلاء ،
فإنّ كلّ
يوم عاشوراء وكلّ أرض
كربلاء ، وصاحب الزمان
عليهالسلام في زيارة
الناحية
يخاطب جدّه سيّد الشهداء
( لأندبنّك في الصباح
والمساء ، ولأبكينّ عليك
بدل
الدموع دما ) ، ولنا في
إمام زماننا اُسوة حسنة
وقدوة صالحة بإقامة مجالس
العزاء
في الدور والمساجد
والتكايا والحسينيات وفي
كلّ مكان صباحا ومساءً .
أجل ، في الآونة الأخيرة
برزت ظاهرة جديدة في
المجتمعات الشيعية
باسم ( المحاضرات ) حيث
يتصدّى عالم ديني ومفكّر
إسلامي منبرا ومنصّة ،
ليلقي على مسامع الجماهير
محاضرة إسلامية ، تمتاز
عن محاضرة الخطباء التي
ربما تكون مكرّرة
وروتينية ـ مع الاعتذار
عن هذا التعبير ـ بعمقها
نوعا ما ،
وبموضوع جديد من رشحات
المحاضر الفكرية ، وقد
أقبل الناس على هذا اللون
من المحاضرات إمّا لما
فيها من الفوائد الجديدة
، أو لأ نّها من الجديد
ولكلّ جديد
التعزية ملح المحاضرات
الإسلاميّة ··· (57)
--------------------------------------------------------------------------------
لذّة ، وعلى كلّ حال صار
المحاضر الديني الحوزوي
يمتاز برتبة جديدة
تبليغية
تقع بين الخطيب وبين
المرجع ، فصنّفوا الحوزة
إلى أصناف ثلاثة :
فالخطيب وهو مبلّغ وقارئ
حسيني ، ثمّ العالم أو
العلاّمة والمحاضر الديني
وربما يكون اُستاذا قديرا
في الحوزة أو كاتبا شهيرا
أو مجتهدا أو فقيها ، ثمّ
المرجع الديني صاحب
الفتوى والتقليد .
فالمرجع الفقيه لا يصعد
المنبر ولا يحاضر ، لأ
نّه يعتبر ذلك كسرا لشأنه
وتنزيلاً لمقامه ، والحال
كان مراجعنا في الماضي
يصعدون المنابر ويقرأون
التعازي ، ويتقرّبون بذلك
إلى اللّه وإلى رسوله
وأهل بيته عليهمالسلام
كما ينقل عن سيرة
صاحب الجواهر والعلاّمة
المجلسي وغيرهما من فطاحل
العلم والاجتهاد والفقه ،
بل كان أمير المؤمنين
يصعد المبنر ويخطب كما
يشهد بذلك ( نهج البلاغة
) .
ثمّ المحاضر يصعد المنبر
ويحاضر ، إلاّ أ نّه لا
يقرأ ( التعزية ) فإنّه
يرى ذلك
خفّةً له ، وإنّه يحسب
على الخطباء وهم دونه في
الحوزة والعلم .
والذي يحزّ في النفس أ
نّه مع هذه الهجمات
الشرسة والشبهات
الشيطانية
التي ترد بين آونة واُخرى
على المذهب الحقّ من قبل
أعدائه وخصومه ، نحتاج
إلى أن نشدّ الناس وشيعة
أمير المؤمنين عليّ
عليهالسلام بأهل البيت
أكثر فأكثر ، ومن
أهمّ عوامل الربط والشدّ
الذي أكّد عليه أئمتنا
الأطهار عليهمالسلام هي
إحياء معالم
عاشوراء ، والبكاء على
سيّد الشهداء ، وإقامة
المجالس وقراءة التعزية
وذكر
المصائب ، فالمفروض على
المحاضر الإسلامي أن لا
يتغافل عن ملح محاضرته ،
بأن يقرأ شيئا من المقتل
ولو نقلاً بالمعنى ، حتّى
تنحدر دموع الولاء ولو
تباكيا ،
ولدقائق في نهاية
المحاضرة ، فإنّه عند ذلك
كان في طاعة اللّه
والرسول والعترة
الطاهرة ، كما أنّ القلب
إذا قسى ومات فإنّه يوجب
جمود العين ، فالبكاء
إحياء
(58) ··· من ملكوت النهضة
الحسينيّة
--------------------------------------------------------------------------------
للقلوب وتطهير للنفوس .
ثمّ المحاضرة التي تفقد
ملحها ليست إلاّ تخزين
معلومات جوفاء ،
وليس السامع فيها إلاّ
كحامل الكتب والأسفار في
ذهنه ، فيكون مكتبة عامّة
سيّارة ، لا ينتفع من
علمه .
أ يّها المحاضرون الكرام
، هلمّوا إلى إحياء يوم
عاشوراء ، فإنّه محور
الكائنات وخلاصة التاريخ
الإنساني ، هو وجناحه
الثاني ـ يوم الغدير ـ
أساس
الإسلام وروحه وجلاله
وجماله وكماله ، فلا نغفل
عن تخطيط الأعداء وهجمات
الاستعمار العالمي ومكائد
الشيطان ، ولا نغترّ
بالعلم ، فلولا التهذيب
والبكاء
لا سيّما على سيّد
الشهداء عليهالسلام لكان
الحجاب الأكبر .
« أحيوا أمرنا رحم اللّه
من أحيا أمرنا » .
طوبى لمن أقام المآتم
الحسينية ومجالس العزاء
وقرأ أو سمع ( التعزية )
فبكى أو تباكى ، وإنّما
يُعلم حقيقة ما أقول يوم
تُبلى السرائر وتظهر
الضمائر ، يوم
لا ينفع مالٌ ولا بنونَ
إلاّ من أتى اللّه بقلبٍ
سليم .