(90) ··· فاطمة الزهراء
مشكاة الأنوار
--------------------------------------------------------------------------------
فاطمة الزهراء
عليهاالسلام
اُسوة وقدوة
من القضايا التي تبحث في
( علم النفس ) المعاصر ،
كما أ نّها ذات أهمية
بالغة في الثقافة
الإسلامية وقاموس الإسلام
، مسألة ( القدوة
والاُسوة ) ، فإنّ
الإنسان منذ نعومة أظفاره
من فطرته وغريزته أ نّه
يبحث عن اُسوة يقتدي به
في
أقواله وأفعاله ، أي من
طبيعته الأوّلية ومن
ذاتياته الفطريّة أ نّه
يتشبّه بشخص آخر
بعد ميله القلبي نحوه ،
فإنّه إذا أحبّه وتعلّق
به ينطبع بطابعه ، وتظهر
على سلوكه
وحركاته وسكناته آثار
وأفعال حبيبه الذي أخذه
قدوة واُسوة في حياته .
فالطفل في أيام صباه ،
ثمّ في سنّ المراهقة
وطليعة الشباب يقتدي بمن
يراه
قدوة ، فيتأثّر بطباعه
وأخلاقه وسلوكه ، فمن
ضروريّات الحياة (
الاُسوة ) فيها ، إلاّ
أ نّه مَن المقتدى ؟ ومَن
المتأسّى به ؟ فمن هو
القائد ؟
ذهب علماء النفس كما هو
الواقع أنّ الإنسان ـ
أعمّ من الذكور والاناث ـ
يقتدي أوّلاً باُمّه ،
فإنّ الاُمّ لها دور
فعّال في حياة الشخص من
جهة الاقتداء
والتأسّي . ثمّ يقتدي
بأبيه أو إخوته وأخواته ،
أي من يعيش معهم في نطاق
الاُسرة
والعائلة . ثمّ يأتي دور
الأصدقاء ، حتّى يعرف
المرء بخليله ، وقل من
تصاحب
حتّى أقول من أنت ؟ فإذا
كانت علقة الصداقة
والمحبّة بين اثنين ،
فإنّ الصديق
(91)
--------------------------------------------------------------------------------
يسلك مسلك صديقه ، ويقتدي
به . ثمّ المصداق الثالث
للتأسّي والاقتداء هو
المعلّم
والمربّي ، حتّى في بعض
الموارد يتأثّر الطالب
باُستاذه ، فيعرف من خلال
حركاته
أ نّه من تلامذة الاُستاذ
الفلاني ، وهذا ما يحدث
في الحوزات العلمية كثيرا
، وكذلك
في الجامعات الأكاديميّة
، ثمّ المصداق الآخر
لاقتداء الشباب يتمثّل
بطبقة
الرياضيين كلاعب كرة
القدم ، وما يعبّر عنه
بالفنّانين من النجوم
السينمائية ، وهذا
ما يحدث عند البنات غالبا
، ثمّ السياسيين لمن كان
يميل إلى السياسة .
هذه مجموعة من يقتدى بهم
في حياتنا المعاصرة في
كلّ العالم وبصورة
عامّة وطبيعية ، ويودّ
الإنسان أن يكون قائده
واُسوته يمتاز بخصائص
تفرزه عن
الآخرين ، وتعطي طابع
الحقّانية في كونه اُسوة
له ، فيحبّ أن يكون
اُسوته أكمل
من غيره ، كما يكون أعلم،
فإذا كانت الاُمّ تحمل
شهادة الماجستير فإنّ
الولد الذي
يقتدي بها يودّ أن يحمل
شهادة الدكتوراه ، كما
يودّ أن يكون اُسوته
باختياره ،
فمتى ما أراده يكون عنده
حاضرا ليستشيره ويقتدي به
في سيرته ، ويودّ أن يكون
جامعا للكمال والجمال ،
ومثل هذه الصفات لا تجتمع
في مَن ذكر من مصاديق
القدوة إلاّ في المعصومين
من الأنبياء والأوصياء
عليهمالسلام ، فهم أكمل
الناس وأعلمهم
وأجمعهم في صفات الجمال
والكمال ، فلا يضاهيهم
أحد من الناس في عصرهم ،
فهم الحجّة على الخلق ،
وقد أمرنا اللّه أن
نأخذهم اُسوة وقدوة :
« اُولئك الذين هدى
اللّه فبهداهم اقتده
»(1) .
« لقد كان لكم فيهم اُسوة
حسنة لمن كان يرجو اللّه
»(2) .
--------------------------------------------------------------------------------
(1) الأنعام : 90 .
(2) الممتحنة : 6 .
(92) ··· فاطمة الزهراء
مشكاة الأنوار
--------------------------------------------------------------------------------
ونحن المسلمين اُسوتنا
رسول اللّه
صلىاللهعليهوآله كما
أمرنا اللّه بذلك :
« لقد كان لكم في رسول
اللّه اُسوة حسنة »(1) .
ثمّ من بعد الرسول الأعظم
اُسوتنا وقدوتنا من
خلّفهما الرسول الأكرم
صلىاللهعليهوآله ،
أعني الثقلين : كتاب
اللّه وعترة النبيّ
المختار عليهمالسلام ،
كما ورد في حديث الثقلين
المتواتر عند الفريقين ـ
السنّة والشيعة ـ فإنّ
رسول الرحمة والإسلام لم
يترك
الناس سدى من بعده ، بل
خلّف فيهم الثقلين كتاب
اللّه وعترته ، ما إن
تمسّكنا بهم
لن نضلّ أبدا ، وإنّهما
لن يفترقا حتّى يردا
الحوض .
ثمّ نعتقد بحياة القرآن
الكريم :
« يا أ يّها الذين آمنوا
استجيبوا للّه وللرسول
إذا دعاكم لما يحييكم
»(2) .
كما نعتقد بحياة الأئمة
الأطهار واُمّهم فاطمة
الزهراء عليهمالسلام ،
فإنّهم أحياء
عند ربّهم يرزقون ، شهداء
على الخلق وعلى هذه
الاُمّة ، يرون أعمالهم .
ثمّ كما أنّ الرسول
والأمير عليهماالسلام
أبوا هذه الاُمّة كما قال
رسول اللّه
صلىاللهعليهوآله : (
أنا
وعليّ أبوا هذه الاُمّة )
، فإنّ فاطمة الزهراء
كذلك اُمّهم ، كما هي
اُمّ أبيها ، فهي قدوة
واُسوة كأبيها وبعلها
وبنيها ، فكلّهم نور واحد
في طريق الهدى ، وفي مقام
التأسّي
والاقتداء .
إنّ فاطمة الزهراء سيّدة
النساء عليها سلام اللّه
أبد الآبدين هي اُمّ
المؤمنين
والمؤمنات على طول
التاريخ البشري ، فهي
اُمّ الأئمة النجباء
عليهمالسلام ، كما هي
اُمّ
شيعتهم الكرام ، اُمّهم
وقدوتهم في عالم المعنى
والوجود والطينة .
--------------------------------------------------------------------------------
(1) الأحزاب : 21 .
(2) الأنفال : 24 .
فاطمة الزهراء
عليهاالسلام اُسوة وقدوة
··· (93)
--------------------------------------------------------------------------------
فالزهراء عليهاالسلام
اُسوة وقدوة ، إلاّ أن من
يبغي الاقتداء بها تارة
يتبلور ذلك
عنده بقراءة سيرتها
ومطالعة حياتها ، فيتشبّه
ـ الرجل ـ أو تتشبّه ـ
المرأة ـ بها
عليها سلام اللّه ، إلاّ
أ نّه ربما يصعب ـ كما هو
الحال ـ انطباق عصرنا
الحاضر بما
فيه من التطوّر
التكنولوجي والصناعي على
زمانها ، فيعيش الحالة
التضادّية أو
الانعزاليّة والانفرادية
، وتارةً يقتدي بها في
أحاديثها وأقوالها
الشريفة ، ولكن
يأتي الإشكال السابق
مرّةً اُخرى ، فمن
أقوالها : « خير النساء
أن لا ترى الرجال
ولا يراها الرجال » ،
وكيف ينطبق هذا على عصرنا
الحاضر ؟ !
نعم ، يبقى التأسّي بها
عليهاالسلام من حيث
العلقة والارتباط الروحي
والوجودي
والمعنوي ، فإنّها ـ روحي
فداها ـ اُمّي في الوجود
والمعنى والروح ، والاُمّ
بالمعنى
الأوّل والثاني إنّما هي
من ( الاُمّ المنفعلة )
أي نحن نذهب إليها فنأخذ
من سيرتها
أو أقوالها ، ولكن
بالمعنى الثالث من (
الاُمّ الفعّالة ) ، فهي
التي تبارينا وتحفظنا
وترعانا بعينها وحضورها
وحياتها ، فتراعينا
بإمداداها الغيبي
المستمدّ من اللّه
سبحانه وأنفاسها القدسيّة
، وإذا كنّا لا نحسّ بذلك
في حياتنا الفعليّة ،
فإنّ السبب
هو أ نّه أخرجنا يدنا من
يدها ، فضعنا وتهنا
وانحرفنا وسقطنا عند
الانزلاق ، كما
يضيع الطفل ويتيه وينزلق
ويسقط عندما يفارق اُمّه
، أو يريد أن يستقلّ عنها
، فإذا
كانت يدي بيد اُمّي فإنّي
لا أضيع في حياتي
المعاصرة ، ومتى ما
تعثّرت رجلاي
فأهوى السقوط ، فإنّ
اُمّي ترفعني وتحفظني من
العثرة والسقوط والهبوط ،
فالعمدة أن نحكّم الأواصر
والعلقة الوجوديّة بيننا
وبين اُمّنا الزهراء
عليهاالسلام ، بأن
نكون فاطميين في المعتقد
والسلوك والمعنى والوجود
والروح .
ثمّ الانتساب نسبا إلى
فاطمة الزهراء
عليهاالسلام وإن كان عند
المشهور من
فقهائنا الأعلام من جهة
الأب ، إلاّ أنّ ذلك
باعتبار الأحكام الفقهيّة
من أخذ
(94) ··· فاطمة الزهراء
مشكاة الأنوار
--------------------------------------------------------------------------------
الخمس أو حرمة الصدقة
عليهم ، وإلاّ فمن جهة
الشرافة والاُمومة
والتحريم
لا فرق بين ذرّية الزهراء
عليهاالسلام ذكورا وإناثا
، فكلّهم من طرف الأب أو
الاُم
ينتسبون إليها ، أضف إلى
ذلك الانتساب السببي من
جهة المصاهرة أو الرضاع ،
وحينئذٍ باعتبار ( حساب
الاحتمالات ) المعروفة في
علم الرياضيات والاُسس
المنطقيّة للاستقراء نرى
أنّ أكثر شيعة العراق
وإيران وحوالهيما ممّن
ينتسبون إلى
بنت رسول اللّه فاطمة
الزهراء عليهاالسلام ،
إمّا سببا وإمّا نسبا من
جهة أجدادهم
الماضين .
فإذا كانت فاطمة الزهراء
عليهاالسلام قبل أربعة
عشر قرنا ، وكان كلّ جيل
من
الأجيال يقدّر بثلاثين
عام ، فيكون بيننا وبينها
46 جيلاً تقريبا ، وإذا
كان المولود
من فاطمة الزهراء نصفه
ذكورا ونصفه اناثا ـ كما
كان بوجود الحسنين
والزينبين عليهمالسلام ـ
فإنّه في النسل الخامس
يلزم أن يكون السيّد
الأبي نفرين
والباقي 30 نفرا من طرف
الاُم ، ومع حساب
الاحتمالات يلزم أن يكون
في
عصرنا هذا برقم يتكوّن من
تسعة أرقام تقريبا ، أي
بمقدار سكّان الأرض في
الوقت الحاضر تقريبا ،
فتدبّر .
وتبقى فاطمة الزهراء
عليهاالسلام اُسوة وقدوة
لكلّ البشريّة ، لا سيّما
لشيعتها
الكرام ، بكلّ ما للاُسوة
والقدوة من معاني ومصاديق
، فهي الاُم معنىً ووجودا
وجسدا وطينة ، وهي
المعلّمة والمربّية ، وهي
الصدّيقة الصادقة
المصدّقة ، وهي
نجم الكون الزاهر وسرّ
الوجود الباهر .