الصور النشاطات السيرة  
الصور النشاطات السيرة  
الصوتيات المرئيات الکتب  
الصوتيات المرئيات الکتب  
الإتصال بنا القائمة العامة الإستفتائات  
الإتصال بنا القائمة العامة الإستفتائات  
       
 
   علوی.نت . العربیة . مکتبة الکتب . رسالات الإسلامیة . المجلد الثالث و العشرون - 23 . فاطمة الزهراء - س - مشکاة الأنوار . 26 .  

بعد  فهرست  قبل 
فاطمة الزهراء عليهاالسلام اُسوة وقدوة ··· (95)
--------------------------------------------------------------------------------
من وحي الزيارة الفاطميّة لقد ثبت بالبراهين الساطعة والحجج القاطعة ، ومن خلال الأدلّة العقليّة
والنقليّة من الآيات الكريمة والأحاديث الشريفة أنّ صفوة الخلائق وزبدة
عالم الإمكان وسرّ الوجود ونقطة الانطلاق في عالمي الأمر والخلق هم الأربعة
عشر المعصومين عليهم‏السلام فهم كلّ الوجود الخلقي ووجود الكلّ الإمكاني ، هم فاطمة
الزهراء وأبوها وبعلها وبنوها الأئمة الأحد عشر عليهم صلوات اللّه‏ وسلامه
أبد الآبدين ، فقد كرّمهم اللّه‏ بالشموخ والعظمة والمقامات التي لا تدركها العقول ،
فلا يقاس بهم أحد من الخلق ، كفاهم جلالةً وكمالاً وشموخا أنّ اللّه‏ بدأ بهم الخلق
كما يختم ـ كما ورد في زيارة الجامعة الكبرى التي تعدّ أساس التشيّع في معرفة
الإمام عليه‏السلام ( بكم بدأ اللّه‏ وبكم يختم ) ـ فحباهم ربّهم وصانعهم بمكارم وفضائل
لا تعدّ ولا تحصى ، وميّزهم في عالمي التكوين والتشريع وفي الدنيا والآخرة
بخصائص ودرجات لم يعطَ لغيرهم من المقرّبين . كلّما سبرنا في أعماق منازلهم
القدسيّة فإنّا لم نبلغ معشار العشر أي واحد بالمئة كما ورد في الأحاديث الشريفة :
« نزّلونا عن الربوبيّة وقولوا فينا ما شئتم ولن تبلغوا وما تقولونه معشار العشر » ،
فإنّهم مرآة صفات اللّه‏ العليا ومظاهر أسمائه الحسنى « لا فرق بينك وبينهم إلاّ أ نّهم
(96)
--------------------------------------------------------------------------------
عبادك فتقها ورتقها بيدك »(1) .
ومن مقامهم الرفيع أنّ الخلق كلّه في ضيافتهم ، فإنّه بيُمنهم رُزق الورى ،
وبوجودهم ثبتت الأرض والسماء « بهم يمسك السماء أن تقع على الأرض » ،
« ولولا الحجّة لساخت الأرض بأهلها » .
ثمّ اختصّ اللّه‏ شيعتهم ومحبّيهم بضيافة تخصّ بأوليائهم ، فقد ورد
عنهم عليهم‏السلام في قول جدّهم رسول اللّه‏ صلى‏الله‏عليه‏و‏آله : « لا تعادوا الأياّم فتعاديكم » ، إنّ كلّ
يوم من الاُسبوع في عالم التكوين يختصّ بواحد منهم أو ببعضهم منذ أن خلق اللّه‏
السماوات والأرض ، فيزار المعصوم عليه‏السلام في ذلك اليوم ، ويكون الزائر الموالي
ضيفه وفي كنفه وحمايته .
فيوم السبت مختصّ بجدّهم رسول اللّه‏ محمّد صلى‏الله‏عليه‏و‏آله فيقول الزائر المؤمن
والزائرة المؤمنة بعد ذكر أوصاف النبيّ صلى‏الله‏عليه‏و‏آله : « يا رسول اللّه‏ ، صلوات اللّه‏ عليك
وعلى آل بيتك الطاهرين ، هذا يوم السبت وهو يومك وأنا فيه ضيفك وجارك
فأضفني وأجرني فإنّك كريم تحبّ الضيافة ومأمور بالإجارة فأضفني وأحسن
ضيافتي وأجرنا وأحسن إجارتنا بمنزلة اللّه‏ عندك وعند آل بيتك عليهم‏السلام وبمنزلتهم
عنده وبما استودعكم من علمه فإنّه أكرم الأكرمين » .
ويوم الأحد باسم أمير المؤمنين عليّ المرتضى وفاطمة الزهراء عليهماالسلام
ويقول الزائر بعد السلام والصلاة وذكر شمّة من صفات الإمام : « يا مولاي ،
يا أمير المؤمنين ، هذا يوم الأحد وهو يومك وباسمك وأنا ضيفك فيه وجارك
--------------------------------------------------------------------------------
(1) في الزيارة الرجبيّة عن مولانا صاحب الأمر عليه‏السلام في مفاتيح الجنان لشيخنا خاتم
المحدّثين الشيخ عبّاس القمّي قدس‏سره .
من وحي الزيارة الفاطميّة ··· (97)
--------------------------------------------------------------------------------
فأضفني يا مولاي وأجرني فإنّك كريم تحبّ الضيافة ومأمور بالإجارة فافعل
ما رغبت إليك فيه ورجوته منك بمنزلتك وآل بيتك عند اللّه‏ ومنزلته عندكم وبحقّ
ابن عمّك رسول اللّه‏ صلّى عليه وآله أجمعين » .
ويوم الاثنين باسم السبطين الإمامين الحسنين الحسن المجتبى والحسين
سيّد الشهداء عليهماالسلام فبعد السلام يقول : « يا مولاي يا أبا محمّد ، ويا مولاي
يا أبا عبد اللّه‏ ، هذا يوم الاثنين وهو يومكما وباسمكما وأنا ضيفكما فأضيفاني
وأحسنا ضيافتي فنعم من استضيف به أنتما وأنا فيه من جواركما فأجيراني فإنّكما
مأموران بالضيافة والإجارة فصلّى اللّه‏ عليكما وآلكما الطيّبين » .
ويوم الثلاثاء باسم الأئمة الأطهار الإمام السجّاد والإمام الباقر والإمام
الصادق عليهم‏السلام يقول بعد زيارتهم : « يا مواليّ هذا يومكم وهو يوم الثلاثاء وأنا فيه
ضيف لكم ومستجير بكم فأضيفوني وأجيروني بمنزلة اللّه‏ عندكم وآل بيتكم
الطيّبين الطاهرين » .
ويوم الأربعاء باسم الأئمّة الأبرار الإمام الكاظم والإمام الرضا والإمام
الجواد والإمام الهادي عليهم‏السلام فتقول بعد زيارتهم : « أنا مولى لكم مؤمن بسرّكم
وجهركم متضيّف بكم في يومكم هذا وهو يوم الأربعاء ومستجير بكم فأضيفوني
وأجيروني بآل بيتكم الطيّبين الطاهرين » .
ويوم الخميس باسم الإمام الحسن العسكري عليه‏السلام تقول بعد زيارته :
« أنا مولى لك ولآل بيتك وهذا يومك وهو يوم الخميس وأنا ضيفك فيه ومستجير
بك فيه فأحسن ضيافتي وإجارتي بحقّ آل بيتك الطيّبين الطاهرين » .
ويوم الجمعة باسم مولانا وإمام زماننا صاحب العصر الحجّة المنتظر الإمام
الثاني عشر عليه‏السلام وعجّل اللّه‏ فرجه الشريف ونقول بعد السلام والصلاة عليه :
(98) ··· فاطمة الزهراء مشكاة الأنوار
--------------------------------------------------------------------------------
« يا مولاي ، يا صاحب الزمان ، صلوات اللّه‏ عليك وعلى آل بيتك ، هذا يوم
الجمعة وهو يومك المتوقّع فيه ظهورك والفرج فيه للمؤمنين على يديك وقتل
الكافرين بسيفك ، وأنا يا مولاي فيه ضيفك وجارك وأنت يا مولاي كريم من
أولاد الكرام ومأمور بالضيافة والإجارة فأضفني وأجرني صلوات اللّه‏ عليك
وعلى أهل بيتك الطاهرين » .
ثمّ لكلّ ضيف قرىً وكرامةً ، وأهل البيت عليهم‏السلام معدن كلّ خير وإحسان ،
أهل الجود والسخاء والكرم ، لا ينهرون السائل ولا يخيب من يقصدهم ، وقد
أمرهم اللّه‏ سبحانه بأن يجيروا من استجار بهم ، ويضيفوا من استضافهم ، فيقرون
الضيف ، وقد ورد في الأثر : ( أكرم الضيف ولو كان كافرا ) فيكرمون الضيف وإن
كان كافرا فكيف بمن كان محبّا ومواليا لهم ومن شيعتهم والمؤتمرين بأوامرهم
والمطيعين لهم ، فإنّهم عليهم‏السلام بلا شكّ ولا ريب يضيفونه بأجمل وأكمل الضيافة ،
ويجيرونه بأحسن الإجارة ، إلاّ أنّ ضيافة المعصومين عليهم‏السلام تعني التوفيق
والتسديد في الحياة ، وتوفيق زيارتهم في الدنيا ، والممات على ولايتهم ودينهم ،
ونيل رأفتهم ودعائهم ، وشفاعتهم في الآخرة ، والحشر في زمرتهم وفي جوارهم ،
كما قال رسول اللّه‏ صلى‏الله‏عليه‏و‏آله : « يا عليّ أنت وشيعتك جيراني في الجنّة » فضيافة
الرسول الأعظم وآله الأطهار عليهم‏السلام إنّما تعني النمير من علومهم ومعارفهم ،
فطعامهم العلم والمعرفة ، كما ورد في الحديث الشريف في قوله تعالى :
« فَـلْيَـنْظُرِ الإنسَانُ إلَى طَعَامِهِ »(1) ، قال الإمام الباقر عليه‏السلام : « فلينظر إلى علمه
ممّن يأخذ » فالطعام في عالم المعنى هو العلم ، فقرى الأئمّة لضيوفهم أن يميروهم
--------------------------------------------------------------------------------
(1) عبس : 24 .
من وحي الزيارة الفاطميّة ··· (99)
--------------------------------------------------------------------------------
من علومهم الربّانيّة ويطعموهم من مائدة اللّه‏ من كتابه الكريم وأسمائه الحسنى
وصفاته العليا ، ويثبّتونهم على ولايتهم ، ولا يلقّاها إلاّ ذو حظٍّ عظيم .
ثمّ المقصود من هذه العجالة بيان ما جاء في زيارة مولاتنا وسيّدتنا ، حجّة
الحجج ، بهجة قلب المصطفى ، وقرّة عين الرسول الطاهرة البتول ، سيّدة النساء
فاطمة الزهراء عليهاالسلام ، فقد ذكر خاتم المحدّثين شيخنا القمّي قدس‏سره في كتابه القيّم
( مفاتيح الجنان ) زيارتين ، وهما كما يلي :
الزيارة الاُولى :
« السلام عليكِ يا ممتحنة ، امتحنكِ الذي خلقكِ فوجدكِ لما امتحنكِ
صابرةً ، أنا لكِ مصدّق صابر على ما أتى به أبوك ووصيّه صلوات اللّه‏ عليهما وأنا
أسألكِ إن كنتُ صدّقتكِ إلاّ ألحقتني بتصديقي لهما لتسرّ نفسي فاشهدي أ نّي ظاهر
بولايتك وولاية آل بيتكِ صلوات اللّه‏ عليهم أجمعين » .
الزيارة الثانية :
« السلام عليكِ يا ممتحنة ، امتحنكِ الذي خلقكِ قبل أن يخلقكِ وكنتِ
لما امتحنكِ به صابرة ونحن لك أولياء مصدّقون ولكلّ ما أتى به أبوكِ صلّى اللّه‏
عليه وآله وسلّم وأتى به وصيّه عليه السلام مسلّمون ونحن نسألك اللهمّ إذ كنّا
مصدّقين لهم أن تلحقنا بتصديقنا بالدرجة العالية لنبشّر أنفسنا بأ نّا قد طهّرنا
بولايتهم عليهم السلام » .
لا يخفى على ذوي النهى أنّ هذه الزيارة العظيمة التي نزور بها مولاتنا
الزهراء عليهاالسلام في كلّ يوم أحد من الاُسبوع ، تعدّ من أعظم الزيارات الفاطميّة
المأثورة عن أهل بيت العصمة والطهارة عليهم‏السلام ، فإنّها تضمّ بين كلماتها القدسيّة
أنوارا وأسرارا وخزائنَ وكنوزا من العلوم والمعارف والحقائق ... نشير إلى
(100) ··· فاطمة الزهراء مشكاة الأنوار
--------------------------------------------------------------------------------
لمعة من لمعاتها لنهتدي بجذوة من قبساتها ، فإنّه يلوح وتبرزُ في هذه الزيارتين
عناوين ستّة ، يشعّ منها نور العلم والمعرفة ، ويفوح منها عطر الولاء والمحبّة
وهي كما يلي :
1 ـ الابتلاء والصبر :
« يا ممتحنة ، امتحنكِ الذي خلقكِ قبل أن يخلقكِ وكنتِ لما امتحنكِ به
صابرة » ، « فوجدكِ لما امتحنكِ صابرة » .
الاختبار والامتحان والابتلاء من سنن اللّه‏ تعالى في الحياة ، فإنّه سبحانه
خلق الموت والحياة « لِـيَـبْلُوَكُمْ أيُّكُمْ أحْسَنُ عَمَلاً »(1) ، وأينما يكون الاختيار
يكون الاختيار . فالإنسان في مقام الابتلاء والامتحان خلق مخيّرا ، وقد هداه اللّه‏
النجدين ، فإمّا أن يكون شاكرا قولاً وعملاً ، وعابدا ومطيعا للّه‏ سبحانه ، أو يكفر به
وبنعمه وبما أمر ونهى « إمَّا شَاكِرا وَإمَّا كَـفُورا »(2) ، ثمّ يظهر من الآيات القرآنيّة
والأحاديث الشريفة أنّ هذا الاختبار الاختياري كان منذ القديم وفي عوالم الأمر
والمجرّدات من الأنوار والأشباح والأرواح وعالم الذرّ ، أي في العوالم الملكوتيّة
وقبل العالم الناسوتي ، أي الدنيا الدنيّة ، فإنّ الدنيا ظهور لتلك العوالم ، وإتماما
للحجّة ، فإنّ للّه‏ الحجّة البالغة ، والحديث في هذا المجال كثير ...
ثمّ اختبر اللّه‏ مولاتنا فاطمة الزهراء عليهاالسلام وامتحنها قبل أن يخلقها بالخلق
الدنيوي ، أي امتحنها بالبلاء في عالم الأمر « ألا لَهُ الخَلْقُ وَالأمْرُ »(3) ، أي في
--------------------------------------------------------------------------------
(1) هود : 7 .
(2) الدهر : 3 .
(3) الأعراف : 54 .
من وحي الزيارة الفاطميّة ··· (101)
--------------------------------------------------------------------------------
العوالم الملكوتية من الأنوار والأرواح ، وفي عالم الميثاق والذرّ ، لقد اختبرها اللّه‏
بالبلايا والابتلاء وما يجري عليها في دار الدنيا وعلى أولادها الأطهار وذرّيّتها
الأبرار من المحن والقتل بالسيف والسمّ والسجن والتشريد والنفي والتعذيب
والمصائب التي لو صبّت على الأيام لصرن لياليا ، كما قالت عليهاالسلام بعد رحلة أبيها
الرسول الأعظم محمّد صلى‏الله‏عليه‏و‏آله :
صبّت عَلَيَّ مصائبٌ لو أ نّها صُبّت على الأيّام صرن لياليا
ثمّ من أحبّه اللّه‏ ابتلاه ببلاء حسن ، وإنّ المؤمن مبتلى ، والبلاء للولاء ،
فأكثرهم ولاءً أكثرهم بلاءً ، فمن ابتلي وصبر فقد فاز فوزا عظيما ، فإنّ اللّه‏
يوفّي الصابرين اُجورهم بغير حساب ، وقد أثبتنا في رسالة ( العصمة بنظرة
جديدة ) أنّ أركان العصمة : العلم والزهد والصبر ، فمن علم بعلم اللّه‏ وزهد في
دنياه وصبر على البلايا فإنّه يُعصم من الذنوب والآثام ، إمّا بعصمة ذاتيّة كلّيّة
مطلقة كما في الأنبياء والأوصياء ، أو بعصمة أفعاليّة كما في الأولياء والصالحين
والمؤمنين ، وأمّا الأربعة عشر المعصومون عليهم‏السلام فقد فاقوا خلق اللّه‏ طرّا في العلم
والزهد والصبر ، فعصمتهم في أعلى مراتب العصمة ، وتجلّت عصمتهم وطهارتهم
وقدسيّتهم في اُمّهم فاطمة الزهراء عليهاالسلام ، فإنّها جمعت بين نوري عصمة النبوّة
وعصمة الإمامة ، فكانت مظهرا تامّا لعصمة اللّه‏ الكبرى ، وأساس عصمتها بعد
الاختبار والاختيار كان على الابتلاء والصبر(1) .
--------------------------------------------------------------------------------
(1) ذكرت تفصيل ذلك في ( فاطمة الزهراء سرّ الوجود ) ، و ( فاطمة الزهراء ليلة القدر ) ،
و ( العصمة بنظرة جديدة ) ، و ( عصمة الحوراء زينب ) .
(102) ··· فاطمة الزهراء مشكاة الأنوار
--------------------------------------------------------------------------------
2 ـ الولاء والمحبّة :
« ونحن لكِ أولياء » .
الولاء بمعنى الحبّ والنصرة والمتابعة والإطاعة ، وقد ثبت في محلّه أنّ
روح الدين الإسلامي هو ولاية النبيّ وآله عليهم‏السلام ، فهل الدين إلاّ الحبّ للّه‏ ولرسوله
ولأهل بيته الأطهار عليهم‏السلام ، ثمّ البغض لأعداء اللّه‏ وأعداء رسوله وآله عليهم‏السلام ، فإنّ
أجر الرسالة المحمّديّة إنّما هي مودّة ذوي القربى وآل المصطفى عليهم‏السلام ، أعني
فاطمة الزهراء والأئمّة الاثني عشر عليهم‏السلام خلفاء الرسول الأعظم ، وكلّهم من
قريش(1) .
والمودّة لغةً واصطلاحا بمعنى الحبّ والإطاعة ، فمن أحبّهم وأطاعهم كان
معهم في الدنيا والآخرة ، فنحن أولياء لفاطمة الزهراء عليهاالسلام وإنّا من شيعتها إن شاء
اللّه‏ تعالى ، فإنّ من كان في مذهبه ومرامه ودينه فاطميّ الهوى كان مسلما نبويّ
العقيدة ولويّ المذهب ، أي تابعا ومطيعا لنبيّ اللّه‏ ولوليّ اللّه‏ عليهماالسلام .
ثمّ فاطمة الزهراء عليهاالسلام سرّ الوجود قد جمعت بين نوري النبوّة والإمامة ، فهي
بنت رسول اللّه‏ وحليلة وليّ اللّه‏ واُمّ الأئمّة النجباء ، فمن والاها فقد والى اللّه‏
ورسوله وأولياءه ، ومن عاداها فقد عادى اللّه‏ ورسوله وأولياءه ، فاشهدي
يا مولاتي إنّا لكِ أولياء ومحبّون وصادقون في الولاء والمحبّة والمودّة ، نفدي
أنفسنا وكلّ ما نملكه ـ والملك للّه‏ ـ دونكم ودون ولايتكم الكبرى وآيتكم
العظمى ، وما أجمل القتل والشهادة في سبيلكم ، فإنّها أحلى من الشّهد إلى
الشارب . فنحيى ونموت على حبّكم وولايتكم ، وإنّا معكم معكم لا مع عدوّكم
--------------------------------------------------------------------------------
(1) راجع في ذلك صحيح البخاري .
من وحي الزيارة الفاطميّة ··· (103)
--------------------------------------------------------------------------------
ولا مع غيركم . فإنّ طلب الهداية من غيركم مساوق لإنكاركم ، فبكم نتأسّى
وبهداكم نقتدي ، وعلى ولايتكم نعيش ونموت ونفدي الأرواح .
3 ـ التصديق :
« أنا لكِ مصدّق » ، « نحن لكِ أولياء مصدّقون » .
التصديق من الصدق الذي يقابله الكذب ، فليس كلّ من يدّعي الولاء
والمحبّة يكون صادقا في دعواه ، بل لا بدّ من إثبات ذلك بالجنان واللسان والعمل
بالأركان ، أي يصدّق دعواه بالقول والعمل في مقام الإطاعة والمتابعة والبيعة ،
فيشري نفسه وأمواله ابتغاء مرضاة اللّه‏ ، فإنّ اللّه‏ سبحانه يرضى لرضا فاطمة
الزهراء عليهاالسلام ويغضب لغضبها ، فرضا اللّه‏ في رضاها ورضا أبيها وبعلها وبنيها ، وإنّ
الموالي المحبّ والشيعي الخالص يثبت تشيّعه وإخلاصه في الولاء والمودّة
بالطاعة والعبادة ، وبالعلم النافع والعمل الصالح ، وإنّ الإنسان لفي خسر إلاّ الذين
آمنوا باللّه‏ ورسوله وملائكته وكتبه وأوصياء نبيّه وعملوا الصالحات وتواصوا
بالحقّ ، وعليّ عليه‏السلام مع الحقّ والحقّ مع عليّ أينما دار عليّ يدور الحقّ معه ،
وتواصوا بالصبر على المحن والبلايا والمصائب التي تصبّ عليهم من أعداء اللّه‏ ،
ضريبة ولائهم وحبّهم لأولياء اللّه‏ ولفاطمة الزهراء عليهاالسلام ، فنحن نصدّق فاطمة
الزهراء في عصمتها وحجّتها ومنازلها وقربها من اللّه‏ تعالى ، وبولايتها وفدكها
وخطبتها وظلاماتها وما جرى عليها بعد رحلة أبيها من ظلم الظالمين وجور
الجائرين لعنة اللّه‏ عليهم أجمعين أبد الآبدين ، « اللهمّ العن أوّل ظالم ظلم حقّ
محمّد وآل محمّد وآخر تابعٍ له على ذلك » ، فنحن لك أولياء مصدّقون ، ولإعدائكِ
أعداء اللّه‏ محاربون ، وإنّ منّا من قضى نحبه ومنّا من ينتظر ، رزقنا اللّه‏ الشهادة في
سبيلكم سبيل اللّه‏ ، وحشرنا اللّه‏ في زمرتكم ورزقنا في الدنيا زيارتكم ورأفتكم
(104) ··· فاطمة الزهراء مشكاة الأنوار
--------------------------------------------------------------------------------
ودعاءكم ، وفي الآخرة شفاعتكم والحشر في زمرتكم وبجواركم .
4 ـ التسليم والثبات والاستقامة بكلّ ما جاء به الوحي والولاية ـ أي النبيّ
والوصيّ عليهماالسلام ـ :
« ولكلّ ما أتى به أبوكِ صلى‏الله‏عليه‏و‏آله وأتى به وصيّه عليه‏السلام مسلّمون » ، « صابر على
ما أتى به أبوكِ ووصيّه صلوات اللّه‏ عليهما » .
فإنّ من الناس من هو مستودع الإيمان ـ والعياذ باللّه‏ ـ ومنهم من هو
مستقرّ ، والعمدة في الإيمان والتصديق هو الثبات عليه ، فكم من آمن ثمّ غرّته
الدنيا فانقلب على عقبيه ومات كافرا ؟ !
أليس ارتدّ الناس عملاً بعد رسول اللّه‏ محمّد صلى‏الله‏عليه‏و‏آله عن ولاية أمير المؤمنين
عليّ عليه‏السلام ونصبه في يوم الغدير ، فأنكروا الحقّ وخذلوه وخالفوه ، ثمّ غرّتهم الدنيا
الدنيّة ، ففعلوا ما فعلوا بما يندي جبين الإنسانيّة من الفضائح والمخازي
والمعاصي والآثام والظلم والجور ، فحينئذٍ فلا يكفي أن نقول ربّنا اللّه‏ جلّ جلاله
ونبيّنا محمّد صلى‏الله‏عليه‏و‏آله من دون المقاومة والثبات على ذلك ، بل لا بدّ من الاستقامة على
هذا القول والإيمان سلوكا وعملاً بإطاعة اللّه‏ ورسوله ، واتّباع خلفائه وأوصيائه
الذين نصّ عليهم رسول اللّه‏ صلى‏الله‏عليه‏و‏آله بالحقّ ، فإنّ من مات ولم يعرف إمام زمانه مات
ميتةً جاهلية ، وكفر ونفاق .
فمن هو إمام زماننا الذي نصبه اللّه‏ خليفةً لرسوله وعيّنه النبيّ بنصٍّ منه :
« الَّذِينَ قَالُوا رَبُّـنَا اللّه‏ُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَـتَـنَزَّلُ عَلَيْهِمُ المَلائِكَةُ »(1) ، فلا بدّ من
التسليم المحض للمعصوم عليه‏السلام حتّى إذا قال الإمام المعصوم عليه‏السلام نصف الفاكهة
--------------------------------------------------------------------------------
(1) فصّلت : 30 .
من وحي الزيارة الفاطميّة ··· (105)
--------------------------------------------------------------------------------
هذه حلالاً ونصفها الآخر حراما لأكلنا الحلال منها وتركنا الحرام منها ـ كما ورد
في الحديث الشريف ـ .
وهل الإسلام إلاّ التسليم للّه‏ ولرسوله ولأوصيائه بالحقّ ؟ وهل الدين إلاّ
الثبات والاستقامة على الحقّ ومع الحقّ ، فكونوا مع الصادقين إلى يوم الدين ، إنّما
يوفّي اللّه‏ الصابرين أجرهم بغير حساب .
5 ـ اللحوق بالنبوّة والإمامة ، وإنّما يتمّ حلقة الوصل بالزهراء عليهاالسلام :
« ونحن نسألك اللّهم إذ كنّا مصدّقين لهم أن تلحقنا بتصديقنا بالدرجة
العالية » ، و« وأنا أسألك إن كنت صدّقتك إلاّ ألحقتني بتصديقي لهما » .
« قُلْ مَا يَعْبَأُ بِكُمْ رَبِّي لَوْلا دُعَاوءُكُمْ »(1) ، وإنّ الدعاء مخّ العبادة ، « وَمَا
خَلَقْتُ الجِنَّ وَالإنسَ إلاَّ لِـيَعْبُدُونِ »(2) .
فإنّا بعد الولاء والمحبّة والمودّة القلبيّة والتصديق العملي والثبات
والاستقامة عليه نلحق بالحقّ وأهله بلزومهم واتّباعهم وطاعتهم فإنّ « المتقدّم
عليهم مارق ، والمتأخّر عنهم زاهق ، واللازم لهم لاحق » إلاّ أنّ مفتاح كلّ صلاح
وفلاح الدعاء ، فلا بدّ أن ندعو اللّه‏ سبحانه أن يوفّقنا للّحوق بهم ، كما ورد في
الزيارة الفاطميّة ، بل في الزيارات والأدعية المأثورة عن رسول اللّه‏ وعترته
الأطهار عليهم‏السلام ، فلا بدّ من الإمداد الغيبي والعون الإلهي لنيل المقامات العالية
والدرجات الرفيعة ، وإنّما يتمّ ذلك بالدعاء والتوسّل والابتهال والبكاء والإطاعة ،
والطلب من النبيّ وأهله في واقع الأمر طلب من اللّه‏ سبحانه ، كبيعة النبيّ وإطاعته ،
--------------------------------------------------------------------------------
(1) الفرقان : 77 .
(2) الذاريات : 56 .
(106) ··· فاطمة الزهراء مشكاة الأنوار
--------------------------------------------------------------------------------
فمن أطاع النبيّ وبايعه أطاع اللّه‏ وبايعه كما ورد في القرآن الكريم ، فنحن نسألك
اللهمّ « يا اللّه‏ » إذ كنّا مصدّقين لرسولك ولأوصيائه الأئمّة الأطهار عليهم‏السلام قولاً
وعملاً ، أن تلحقنا بتصديقنا بالدرجة العالية ، في جنّة الأسماء الحسنى ، وفي جنّةٍ
عرضها السماوات والأرض ، في مقعد صدقٍ عند مليك مقتدر .
وكما نسألك يا ربّ ذلك ، نسأل اُمَّتك وعصمتك الكبرى فاطمة الزهراء
عليهاالسلام أيضا ، فإنّ رضاك في رضاها ، يغضبك ما يغضبها ويرضيك ما يرضيها ،
فنسألها أن تلحقنا بإيماننا وتصديقنا بالنبيّ ووصيّه ، بأبيها وبعلها وبنيها الأئمّة
الأطهار عليهم‏السلام ، فإنّها حلقة الوصل في عالم الإمكان .
6 ـ البشارة والفوز والسرور والطهارة :
« لنبشّر أنفسنا بأ نّا قد طهرنا بولايتهم عليهم‏السلام » ، « لتسرّ نفسي فاشهدي أ نّي
طاهر بولايتك وولاية آل بيتك صلوات اللّه‏ عليهم أجمعين » .
من الواضح البيّن أنّ نتيجة الولاء القلبي والتصديق العملي والتسليم
السلوكي والثبات والاستقامة واللحوق بالنبوّة والإمامة إيمانا وسلوكا وعملاً وفي
كلّ مجالات الحياة ، إنّما هو الفوز بنعيم الدنيا والآخرة ، والبشارة والسرور
وطهارة النفوس والقلوب ، والحشر مع الأبرار والطاهرين عند مليكٍ مقتدر في
مقعد صدق ، لا خوف عليهم ولا هم يحزنون .
ثمّ العبادات الجوارحيّة والجوانحيّة باطنها التولّي لأولياء اللّه‏ ، كما أنّ باطن
الذنوب والآثام والمعاصي والفواحش هو التولّي لأعداء اللّه‏ ، فما خلق اللّه‏ الجنّ
والإنس إلاّ ليعبدون ، وحقيقة العبادة الولاء والدعاء ، وحقيقة الدعاء الانقطاع إلى
اللّه‏ ، فمن الناس من يتقرّب إلى اللّه‏ بالعبادة خوفا أو طمعا أو حبّا وشكرا ، إلاّ أ نّه
لا بدّ من التقوى والإخلاص في العبادة والدعاء ، فإنّ العمل الخالص يرفعه اللّه‏
من وحي الزيارة الفاطميّة ··· (107)
--------------------------------------------------------------------------------
ويقبله « إنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللّه‏ُ مِنَ المُتَّقِينَ »(1) ، « إلَيْهِ يَصْعَدُ الكَلِمُ الطَّـيِّبُ وَالعَمَلُ
الصَّالِـحُ يَرْفَعُهُ »(2) ، وقليل من عباد اللّه‏ من كان مخلصا وشكورا ، فإنّ الناس
كلّهم هلكى إلاّ العلماء ، والعلماء كلّهم هلكى إلاّ العاملون ، والعاملون كلّهم هلكى
إلاّ المخلصون ، والمخلصون على خطر عظيم ، فإنّ الرياء في العمل كدبيب نملة
سوداء على صخرةٍ صمّاء في ليلةٍ ظلماء ، فمن يحسّ بدبيبها ، وكذلك العجب فإنّه
يفسد العمل كما يفسد الخلّ العسل ، والعجب قطع النعمة عن المنعم ونسبة ذلك إلى
نفسه ، فمن يعجب بعمله وعبادته لا يرى أنّ ذلك من فضل اللّه‏ عليه ، بل يغترّ بنفسه
ويتطاول على الآخرين ، فيبتلى بالكبر والغرور والعجب والرياء حتّى تذهب
أعماله سدى أدراج الرياح ، فالدعاء والعبادة في معرض الأخطار .
إلاّ أنّ الابتلاء والبلاء يخلو من العجب والرياء ، بل ربما يتناسب مع عيوبنا
ومع ظرفيّتنا ، وربما يوجب رشد الإنسان أو رشد المجتمع ، كابتلاء يوسف عليه‏السلام
وأولياء اللّه‏ من الأنبياء والأوصياء والعلماء والصالحين المؤمنين .
ولا يخفى أنّ أعظم البلايا التي أبكت السماء والأرض وحيّرت الملائكة
وذوي الألباب هو ما جرى على رسول اللّه‏ صلى‏الله‏عليه‏و‏آله فإنّه قال : « ما اُوذي نبيّ بمثل
ما اُوذيت » ، وكذلك ما جرى على أهل بيته الأطهار ، وصيّه المرتضى ، وابنته
فاطمة الزهراء ، وسبطيه وريحانتيه الحسن والحسين عليهماالسلام ، وما جرى على الأئمّة
الأطهار من القتل والتعذيب والنفي والسجن والاضطهاد والحرمان وغصب
خلافتهم وإنكار فضائلهم وحقوقهم ، كما يشهد التاريخ بذلك .
--------------------------------------------------------------------------------
(1) المائدة : 27 .
(2) فاطر : 10 .
(108) ··· فاطمة الزهراء مشكاة الأنوار
--------------------------------------------------------------------------------
فما أعظم مصيبة سيّد الشهداء الإمام الحسين بن عليّ عليهماالسلام ، فقد
أبكت ملكوت السماوات « لقد عظمت الرزيّة علينا وعلى جميع أهل الأرض
وعلى جميع أهل السماوات » ، ثمّ من كان في خطّ سيّد الشهداء ويقتدي
بمنهجه وثورته ، ويتأسّى بجهاده وشهادته ، وبما جرى على أهل بيته من القتل
والأسر ، فإنّه يتمنّى أن يكون معهم « يا ليتنا كنّا معكم فنفوز فوزا عظيما » ويطلب
من ربّه أن يعطيه أفضل ما يعطي مصابا بمصيبته ، عندما يتفاعل مع مصيبة
سيّد الشهداء عليه‏السلام ومع ابتلائاته ، إلاّ أنّ شرط العطاء الربّاني هذا إنّما يتمّ لو ابتلينا
ببلائهم ، فإنّه يوجب القرب للّه‏ سبحانه كما يوجب الرشد والكمال ، فإنّ باطن هذا
البلاء هو الضيافة عند اللّه‏ ، كما يتجلّى هذا المعنى في سجدة ( زيارة عاشوراء )
فإنّها سجدة القرب والشكر على المصيبة ، أي يعدّ ذلك من النعمة عليه ، والمنعَم
عليه في ضيافة المنعِم .
ثمّ ما جرى على أولاد رسول اللّه‏ إنّما يجري على اُمّهم فاطمة الزهراء ،
فابتلائهم ابتلائها ، وحزنهم حزنها ، ومصيبتهم مصيبتها ، فهي اُمّ المصائب الكبرى ،
وقد اختبرها اللّه‏ وامتحنها بتلك البلايا فوجدها صابرة محتسبة ، فجعلها الحلقة
الواصلة بين النبيّ والوصيّ وبين الخلق المؤمن في عالم التكوين ، ومن يلحق بهم
فإنّه يفوز بجنّة اللّه‏ « وَادْخُلِي جَـنَّـتِي »(1) جنّة الأسماء الحسنى ، ويفوز برضوان
اللّه‏ الأكبر .
ثمّ قد ثبت أنّ حقيقة العبوديّة والسعادة الدنيويّة والاُخرويّة إنّما يتلخّص
في التولّي والتبرّي ، أي الحبّ والبغض ، كما أنّ الولاية حقيقة التوحيد ، فإنّ
--------------------------------------------------------------------------------
(1) الفجر : 30 .
من وحي الزيارة الفاطميّة ··· (109)
--------------------------------------------------------------------------------
كلمة ( لا إله إلاّ اللّه‏ ) حصن اللّه‏ ، ومن دخل حصنه أمن من عذابه ، إلاّ أ نّه
بشرطها وشروطها ، وإنّ ولاية الأئمّة الأطهار خلفاء الرسول المختار
أمير المؤمنين عليّ عليه‏السلام وأولاده الأحد عشر من شروطها ، كما ورد ذلك عن
مولانا الإمام الرضا عليه‏السلام في حديث السلسلة الذهبيّة المعروفة .
وابتلائهم من أعظم العبادات ، وتحمّل الابتلاء منهم كان السبب لقرب العالم
التكويني إلى اللّه‏ سبحانه : « بنا عُبد اللّه‏ ، وبنا عُرف اللّه‏ » ومن أكبر عبادتنا التوجّه
إلى تلك الابتلاءات العظيمة ، والتفاعل معها فكرا وعقيدة وسلوكا وعملاً وجهادا .
فإنّ التوجّه إلى الابتلاءات من أهمّ العوامل التي توجب السير إلى اللّه‏ والفناء فيه .
ولازم هذا الاتجاه والتوجّه هو العلم والمعرفة ، فمن جهلهم كيف يتوجّه
إليهم وإلى مصائبهم ؟ وكيف يتفاعل معها ؟ فإنّ بين العلم والجهل تضادّ بيّن ،
كما بين العقل والجهل ذلك ، وإنّ للعقل جنودا ـ كما في حديث جنود العقل
والجهل في الكافي ـ وإنّها جنود الطاعة والعبادة ، فإنّ العقل ما عبد به الرحمن
واكتسب به الجنان ، كما أ نّها جنود رسول اللّه‏ صلى‏الله‏عليه‏و‏آله أيضا . فإنّ العقل هو الرسول
الباطني وهو عضيد الرسول الظاهري ، فللّه سبحانه حجّتان : حجّة باطنيّة وهو
العقل ، وحجّة ظاهريّة وهو النبيّ ، والجهل هو الشيطان ، وله جنود ، وأعوانه
وأولياءه .
ثمّ المقصود من خلقة الإنسان تكامله ، وأن يكون مظهرا لأسماء اللّه‏
وصفاته العليا ، إلاّ أ نّه هداه اللّه‏ النجدين ، فإمّا أن يكون من العلّيّين المقرّبين
فيتولّى اللّه‏ أمره « اللّه‏ُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا »(1) أو يكون من السافلين المبعدين ،
--------------------------------------------------------------------------------
(1) البقرة : 257 .
(110) ··· فاطمة الزهراء مشكاة الأنوار
--------------------------------------------------------------------------------
فيتولاّه إبليس وجنوده « وَإنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إلَى أوْلِيَائِهِمْ »(1) .
فالإنسان مخيّر بين أن يكون من جنود العقل أو من جنود الجهل ،
والشيطان يتولّى من يدخل في ميادين الجهل وساحاته ، فيسرق قلبه ، ويدخل
فيه ، ويفرّخ ويبيّض ويعشعش حتّى ينظر بأعينهم وينطق بألسنتهم ، فيكون نظر
وليّ الشيطان ومعاينته نظرة شيطانيّة ، ويكون كلامه ومنطقه من كلام إبليس
اللعين ، ولهذا ( من أصغى إلى ناطق فقد عبده ) كما ورد في الخبر الشريف .
فإن تكلّم عن الشيطان أو النفس الأمّارة بالسوء أو ممّن اتّخذ إلهه هواه ،
فإنّه عبد الشيطان والنفس والهوى ، وإن تكلّم عن اللّه‏ فقد عبد اللّه‏ سبحانه .
ثمّ حقيقة الجهاد الأكبر مع النفس الأمّارة بالسوء ، إنّما تتبلور فيما يكون
المجاهد في سبيل اللّه‏ من جنود رسول اللّه‏ صلى‏الله‏عليه‏و‏آله ، ولا يتمّ النصر في الجهاد الأكبر
إلاّ أن يتوجّه إلى ابتلاءات رسول اللّه‏ وأهل بيته ، وما جرى على ابنته فاطمة
الزهراء عليهاالسلام من غصب فدكها وحرق دارها وشهادة محسنها عليه‏السلام بين الحائط
والباب ، وما جرى على أمير المؤمنين عليه‏السلام من غصب الخلافة وقوده إلى المسجد
وشهادته في المحراب ، ثمّ التوجّه إلى مصيبة سيّد الشهداء التي هي أعظم
المصائب ، وأ نّه لا يوم كيومك يا أبا عبد اللّه‏ ، فما أعظم المصيبة وما أعظم
الرزيّة ؟ !
« لقد عظمت الرزيّة وجلّت وعظمت المصيبة بك علينا وعلى جميع أهل
الإسلام ، وجلّت وعظمت مصيبتك في السماوات على جميع أهل السماوات ،
فلعن اللّه‏ اُمّةً أسّست أساس الظلم والجور عليكم أهل البيت ، ولعن اللّه‏ اُمّة دفعتكم
--------------------------------------------------------------------------------
(1) الأنعام : 121 .
من وحي الزيارة الفاطميّة ··· (111)
--------------------------------------------------------------------------------
عن مقامكم وأزالتكم عن مراتبكم التي رتّبكم اللّه‏ فيها ، ولعن اللّه‏ اُمّةً قتلتكم ،
ولعن اللّه‏ الممهّدين لهم بالتمكين من قتالكم ... »(1) .
ثمّ سيّد الشهداء عليه‏السلام بواقعة الطفّ الأليمة في يوم عاشوراء فضح جنود
الجهل والكفر والنفاق ، وما كان في يوم السقيفة وما عليه يزيد اللعين وأتباعهم
وشيعتهم إلى يوم القيامة ، فكلّ من يأتي من بعده إمّا أن يكون في نهجه ودينه الذي
هو دين الأنبياء والأوصياء ، دين اللّه‏ الأعظم ، أو يكون في معسكر يزيد الذي
جسّد الجهل وجنوده والكفر والنفاق والضلال ، فإمّا أن يكون مع الحقّ أو يكون
مع الباطل ، فهو بين ولايتين : ولاية الرحمن وولاية الشيطان ، فإمّا شاكرا وإمّا
كفورا ... وكلّ هذا يتجلّى في عاشوراء وفي زيارة عاشوراء ، وكلّ يوم عاشوراء
وكلّ أرض كربلاء ، وإذا برز الشرك والكفر كلّه للإيمان والإسلام كلّه في يوم
الخندق وغزوة الأحزاب في براز عمرو بن ودّ العامري وأمير المؤمنين عليّ
المرتضى عليه‏السلام ، فإنّه برز النفاق كلّه للإيمان كلّه في يوم عاشوراء وفي أرض
كربلاء ، فإنّ النفاق بعد رحلة النبيّ تفشّى بين المسلمين حتّى آل الأمر إلى تزلزل
الإسلام حتّى في ظواهره ، ورجوع القوم إلى القهقرى وإحياء النعرات الجاهليّة
مرّةً اُخرى ، فإذا قالوا في مرض النبيّ صلى‏الله‏عليه‏و‏آله حينما قال لهم : « ائتوني بدواة
وقرطاس أكتب لكم فلن تضلّوا بعدي أبدا » : إنّ الرجل ليهجر ، وحسبنا كتاب اللّه‏ ،
فإنّه بعد خمسين عاما قالوا :
لعبت هاشم بالملك فلا خبرٌ جاء ولا وحيٌ نزل يعني أرادوا خرق ظاهر الإسلام أيضا ، وإنكار الوحي والقرآن الكريم ،
--------------------------------------------------------------------------------
(1) من زيارة عاشوراء المشهورة ، مفاتيح الجنان : قسم الزيارات .
(112) ··· فاطمة الزهراء مشكاة الأنوار
--------------------------------------------------------------------------------
فمقصود الرجل « إنّ الرجل ـ أي النبيّ ـ ليهجر » ، وقول يزيد : « لا خبرٌ جاء
ولا وحيٌ نزل » ، واحد ، إلاّ أنّ الأوّل لظروفه الخاصّة والنفاق المبطّن قال :
« حسبنا كتاب اللّه‏ » ، وهذا لتفشّي النفاق وبروز الكفر ، قال : « لا خبرٌ جاء
ولا وحيٌ نزل » وكلا القولين يدلاّن على الكفر المبطّن ، فتدبّر .
ثمّ قد جمع إبليس وجنوده من الجنّ والإنس قواهم في التاريخ ، بكلّ
مظاهر الكفر والنفاق ، منذ هبوط آدم صفوة اللّه‏ على الأرض وإلى يوم عاشوراء ،
فبرزوا جميعا لحرب خاتم النبيّين وسيّد المرسلين محمّد صلى‏الله‏عليه‏و‏آله ولعترته الأئمّة
الأطهار عليهم‏السلام ، فكان من ملكوت عاشوراء وتأويله حضور كلّ الحقّ والحقّ كلّه ،
والصراع بينه وبين الباطل كلّه وكلّ الباطل ، فقتل سيّد الشهداء وأهل بيته
الأطهار عليهم‏السلام لينتصر الدم على السيف ، فبكته كلّ العوالم لعظمة المصيبة والرزيّة
والابتلاء ... فلم يبقَ للدفاع عن الإسلام وحفظه وديمومة حياته ، إلاّ ثار اللّه‏
وابن ثاره الإمام الحسين بن عليّ عليهماالسلام فإنّه الوتر الموتور والفرد المذخور ،
ذخيرة اللّه‏ ورسوله النبيّ المصطفى صلى‏الله‏عليه‏و‏آله لحفظ الإسلام وبقائه واستقامته « إن
كان دين محمّدٍ لم يستقم إلاّ بقتلي فيا سيوف خذيني » . فكان البراز والنضال
في عاشوراء الحسين عليه‏السلام بين صفنين ومعسكرين : الصنف والمعسكر
الرحماني الذي يتجلّى بابن بنت رسول اللّه‏ وريحانته وسبطه سيّد الشهداء الإمام
الحسين عليه‏السلام ، والصنف والمعسكر الشيطايني الذي يتمثّل بيزيد وبني اُميّة
والمنافقين آنذاك ، فالأوّل من فعل اللّه‏ سبحانه ، والثاني فعل الشيطان ، وإنّ الأوّل
يستحقّ الولاء والسلام ، كما أنّ الثاني يستحقّ اللعن والتبرّي ، وكلّ التاريخ
البشري منذ آدم إلى يوم القيامة ، إمّا أن يكون في معسكر الحقّ فيستحقّ السلام
والمحبّة والتولّي ، أو يكون في معسكر الباطل فيستحقّ اللعن والبغض والتبرّي ،
من وحي الزيارة الفاطميّة ··· (113)
--------------------------------------------------------------------------------
فإنّ اللعن شعار التبرّي كما أنّ السلام شعار التولّي ، ومقدّمة كلّ إيجاب الرفض ،
كما في كلمة التوحيد ( لا إله إلاّ اللّه‏ ) فلا بدّ أوّلاً من رفض الآلهة كلّها ثمّ الاعتقاد
باللّه‏ سبحانه ، وكذلك في النبوّة والإمامة ، فلا بدّ من رفض من يدّعي النبوّة كذبا
كمسيلمة الكذّاب ، وكذلك يجب رفض خلفاء الجور أوّلاً ، ولعنهم والتبرّي منهم ،
ثمّ التولّي لأولياء اللّه‏ وأئمّة الهدى عليهم‏السلام ـ والاختلاف هذا في الرتبة لا في
الزمان ـ فيوم عاشوراء حلقة وصل بين التراث النبويّ والولوي ـ من آدم إلى
الخاتم عليهم‏السلام ـ وبين الأجيال المسلمة إلى يوم القيامة ، أجل إنّها حرب بين الحقّ
والباطل ، ولن ينتهي الصراع العقائدي والرسالي إلى يوم القيامة « يا أبا عبد اللّه‏ إنّي
سلمٌ لمن سالمكم وحربٌ لمن حاربكم إلى يوم القيامة »(1) .
واللعن لغةً بمعنى الطرد عن الرحمة الإلهيّة ، فإنّ أوّل من طرد وكان رجيما
هو إبليس ، وذلك لمّا أبى عن الخضوع لآدم بعد أمر اللّه‏ بالسجود له ، فأبى واستكبر
وكان من الكافرين ، فلعنه اللّه‏ وطرده عن رحمته ، واللعن من مصاديق الدعاء
أيضا ، فهو من الدعاء عليه . والدعاء مخّ العبادة ، ومفتاح كلّ صلاح وفلاح ، كما
أ نّه من فلسفة خلقة الإنسان ، فإنّ الدعاء إمّا أن يكون له أو عليه ، فلمثل وليّ اللّه‏
يكون الدعاء له ، وأمّا لعدوّ اللّه‏ فإنّ الدعاء يكون عليه ، فإنّ المؤمن يتقرّب إلى اللّه‏
سبحانه بالدعاء مطلقا ، تارةً بالدعاء للمؤمنين والمؤمنات ، واُخرى بالدعاء على
الظالمين والطغاة ، ومنه اللعن فقولنا : « اللهمّ العن شمرا » أي أبعده عن رحمتك لما
فعل من الظلم والجور في حياته .
ثمّ اللعن في قصّة عاشوراء الحسيني ، لا يختصّ بمن حضر كربلاء وحارب
--------------------------------------------------------------------------------
(1) مفاتيح الجنان : زيارة عاشوراء .
(114) ··· فاطمة الزهراء مشكاة الأنوار
--------------------------------------------------------------------------------
سيّد الشهداء الإمام الحسين عليه‏السلام ، بل لاُميّة جميعا التي أسّست أساس الظلم
والجور ، ولكلّ اُولئك الذين جاهدوا الحسين وشايعوا وبايعوا وتابعوا على قتله ،
بل ومن رضى بقتله عملاً ، باتّباعه خلفاء الجور وأئمّة الضلال على طول التاريخ
الإسلامي من بعد رحلة رسول اللّه‏ صلى‏الله‏عليه‏و‏آله وإلى يومنا هذا وغدا « يَوْمَ نَدْعُو كُلَّ
اُ نَاسٍ بِإمَامِهِمْ »(1) .
ولا يخفى أنّ ما جرى في يوم عاشوراء وفي أرض كربلاء من القتل والأسر
والمصائب والبلايا ، إنّما هو نتيجة مقدّمتين ـ كما في زيارة عاشوراء الخالدة ـ
نستنبط منهما نفاق الاُمّة وغفلتهم فكانوا « كَالأ نْعَامِ بَلْ هُمْ أضَلُّ »(2) .
الاُولى : لعن اللّه‏ اُمّةً أسّست أساس الظلم والجور عليكم أهل البيت .
والثانية : ولعن اللّه‏ اُمّةً دفعتكم وأزالتكم عن مراتبكم التي رتّبكم اللّه‏ فيها .
والنتيجة : ولعن اللّه‏ اُمّةً قتلتكم ( بل ) ولعن اللّه‏ الممهّدين لهم بالتمكين من
قتالكم .
فإنّ خلفاء الجور مهّدوا الطريق منذ اليوم الأوّل لقتل سيّد الشهداء وواقعة
الطفّ ويوم كربلاء كما تشير سيّدتنا زينب الكبرى عليهاالسلام لذلك .
فلا بدّ لكلّ مؤمن رسالي أن يتبرّأ منهم ويلعنهم على مرّ التاريخ ، فإنّ اللعن
شعار البراءة من أعداء اللّه‏ ، ومن ثمّ يتولّى أولياء اللّه‏ فيصلّي ويسلّم عليهم ، فإنّ
السلام والصلوات شعار الولاية لأولياء اللّه‏ ، وهذا الاختلاف الرتبي إنّما يتجلّى
بوضوح في ( زيارة عاشوراء ) فإنّه قُدّم اللعن والتبرّي أوّلاً ثمّ التولّي والسلام
--------------------------------------------------------------------------------
(1) الإسراء : 71 .
(2) الفرقان : 44 .
من وحي الزيارة الفاطميّة ··· (115)
--------------------------------------------------------------------------------
ثانيا ، ليكون مقدّمة ( التحلية ) بالفضائل والسجايا الكريمة والسلامة من الفواحش
( التخلية ) من الرذائل والقبائح والذنوب ـ كما في علم الأخلاق فإنّ مراحل
تهذيب النفس ثلاثة : التخلية والتحلية والتجلية ـ .
فعاشوراء الحسيني خلاصة التاريخ الإنساني ، وإنّه يتجدّد ويتبلور في كلّ
عصر ومصر بما يتناسب مع الزمان والمكان من مظاهر الحزن والآلام وعِظم
المصيبة والرزيّة والابتلاء ، إلاّ أنّ صرخة الجميع وهتافات الكلّ على مرّ التاريخ ،
فإنّ وجود الكلّ وكلّ الوجود ينادي ويصرخ ( يا حسين ) ...
اللهمّ اشهد أ نّا مع سيّد الشهداء الإمام الحسين عليه‏السلام عقيدةً وجهادا ،
فكرا وسلوكا ، شعورا وشعارا ، ولاءً وفداءً ، نقيم مآتمه ونتفاعل مع مصائبه في
مواكبنا ، بكلّ مظاهر الحزن والمصيبة في كلّ محرّم وصفر من كلّ عامّ ، أجل لقد
أجنّنا حبّ الحسين عليه‏السلام ، وإنّ شعارنا مع وليّه والطالب بدمه إمامنا المنتظر
الحجّة الثاني عشر عليه‏السلام ( يا لثارات الحسين ) يا لثارات أولاد الحسين وأصحابه ،
يا لثارات اُمّه فاطمة الزهراء الصدّيقة الكبرى الشهيدة الصابرة ، وسيعلم الذين
ظلموا آل محمّد عليهم‏السلام أيّ منقلبٍ ينقلبون والعاقبة للمتّقين ، وآخر دعوانا أن
الحمد للّه‏ ربّ العالمين .
بعد  فهرست  قبل 
نسخ الرابط :  
 ." جميع الحقوق محفوظة للمؤسسة الإسلامِة العالمية " التبليغ و الإرشاد .
   
العربية    فارسي    English