الفصل  الخامس - من  آداب  الصداقة

« قال الإمام الصادق (عليه السلام) لجميل : خياركم سمحاؤكم ، وشراركم بخلاؤكم ، ومن صالح الأعمال البرّ بالإخوان ، والسعي في حوائجهم ، وفي ذلك مرغمة للشيطان ، وتزحزح عن النيران ، ودخول الجنان ، ثمّ قال : يا جميل ! أخبر بهذا الحديث غرر أصحابك ، قلت : ومن غرر أصحابي ؟ قال (عليه السلام) : هم البارّون بالإخوان في العسر واليسر ».

لقد ذكرنا في الفصول السابقة بعض الأخبار المرويّة عن أهل البيت (عليهم السلام)في حدود الصداقة ، وقضاء حوائج المؤمنين ، وبقي علينا أن نشير إلى بعض آداب الصداقة ، فإنّ لكلّ شيء حريم وإطار وحدود ، من يتعدّها يفقد ذلك الشيء المقصود ، وكذلك عالم الصداقة والأصدقاء ، له حريم وآداب خاصّة ، لا بدّ من مراعاتها ، حتّى تدوم الصداقة ، ويدوم الصفاء والمحبّة والوفاء والإخاء والخلّة.

وقد اشتهر على لسان الناس المثل المعروف : ( بين الأحباب تسقط الآداب ) ، فإذا كان يعني ذلك كما هو الظاهر الكلفة والتكلّف ، فهذا صحيح « فإنّ شرّ الإخوان من تكلّف له » كما ورد في الحديث الشريف ، ولكن إذا كان بمعنى سقوط الاحترام والحشمة ، فهذا من الكلم القبيح ، لأنّ الآداب الحميدة من الحسن ، فإذا كان ذلك حسناً من الغرباء ، فلماذا تبخل به على الأصدقاء ، فهم أولى بذلك ، فإنّ بين الأحباب تسمو الآداب ، وتنمو وتعين على قوّة الارتباط ، وشدّ أواصر العلاقة الأخويّة والخلّة المبدئية والصداقة الإيمانية.

ثمّ هناك مجموعة من الآداب القيّمة قد شرّعها الإسلام لسعادة الناس ، ولتؤتي الصداقة ثمارها ، ويعيش الجميع في أجواء هادئة ، تسودها الطمأنينة والإخاء ، متعاضدين ومتلاحمين في الحياة.

فمنها : الاستئذان للدخول ، فإنّ الدخول على الصديق في داره أو حجرته من دون الاستئذان أو الإخبار بالقدوم ، فيه استهانة بالآخرين وإهانة للنفس ، فربما يسمع منه تقريعاً في ذلك ، وقال الله سبحانه في كتابه الكريم : ( يا أ يُّها الَّذينَ آمَنوا لا تَدْخُلوا بُيوتاً غَيْرَ بُيوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأنِسوا وَتُسَلِّموا عَلى أهْلِها ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ )[1] . وقال عزّ من قائل : ( يا أ يُّها الَّذينَ آمَنوا لِيَسْتَأذِنكُمُ الَّذينَ مَلَكَتْ أيْمانُكُمْ وَالَّذينَ لَمْ يَبْلُغوا الحُلُمَ مِنْكُمْ ثَلاثَ مَرَّات مِنْ قَبْلِ صَلاةِ الفَجْرِ وَحينَ تَضَعونَ ثِيابَكُمْ مِنَ الظَّهيرَةِ وَمِنْ بَعْدِ صَلاةِ العِشاءِ ثَلاث عَوْرات لَكُمْ وَإذا بَلَغَ الأطْفالُ مِنْكُمُ الحُلُمَ فَلـْيَسْتَأذِنوا كَما اسْتَأذَنَ الَّذينَ مِنْ قَبْلِهِمْ )[2] . ويقول الإمام الصادق (عليه السلام) : « ليستأذن أحدكم من وراء الباب قبل أن ينظر إلى قعر البيوت ، فإنّما اُمرتم بالاستئذان من أجل العين ، فإن قيل : ادخل ، فليدخل ، وإن قيل : ارجع ، فليرجع ، ولا أن يسمع أهل البيت . والثانية : يأخذ أهل البيت حذرهم ، والثالثة : يختار أهل البيت إن شاؤوا أذنوا ، وإن شاؤوا لم يأذنوا ».

وفي الحديث عن جابر بن عبد الله الأنصاري ، قال : خرج رسول الله (صلى الله عليه وآله)يريد فاطمة (عليها السلام) وأنا معه ، فلمّـا انتهينا إلى الباب وضع يده الشريفتين عليه ثمّ قال : السلام عليكم ، قالت فاطمة : وعليكم السلام يا رسول الله ؟ قال : أدخل ؟ قالت : إدخل يا رسول الله ، قال : أأدخل أنا ومن معي ؟ قالت : يا رسول الله ليس على رأسي قناع . فقال : يا فاطمة خذي فضلا من مدحتك ، فغطّي به رأسك ، ففعلت ، وبدأ رسول الله يستأذن من جديد ، ثمّ قال : السلام عليكم . فقالت : وعليكم السلام يا رسول الله ، قال : أأدخل ؟ قالت : نعم يا رسول الله ، قال : أنا ومن معي ؟ قالت : ومن معك ، ودخل رسول الله ودخلت معه ».

ويقول الإمام الصادق (عليه السلام) : « ليستأذن الرجل على بنته واُخته إذا كانتا متزوّجتين ».

ومنها : السلام قبل الكلام ، فإنّ قولك : ( السلام عليكم ) لمن تلقّاه إنّما هو دعاء له بالسلامة والصحّة والعافية وإعلان الحبّ والصداقة والاُخوّة ، وقد قال رسول الله (صلى الله عليه وآله) : « من بدأ بالكلام قبل السلام فلا تجيبوه » . ويقول الإمام الباقر (عليه السلام) : « إنّ الله يحبّ إفشاء السلام » ، فإنّ السلام من أسمائه جلّ جلاله ، ويحبّ الله أن تظهر لأسمائه مظاهر ، فهو السلام ويحبّ إفشاء السلام ، ويقول الإمام الصادق (عليه السلام) : « من التواضع أن تسلّم على من لقيت » ، ويقول (عليه السلام) : « ليسلّم المارّ على القاعد ، والراكب على الجالس ، والعدد القليل على الكثير ».

وفي الحديث الشريف : « من تواضع لله رفعه » ، وفي آخر : « لا رافع لمن وضعت ولا واضع لمن رفعت » ، ومن التواضع أن تسلّم على كلّ من تلقاه ، والنتيجة أنّ الله يرفعك ويعزّك بين الناس ، ولا يمكن لأحد أن يضعك ويقلّ من شأنك ، فإنّ الله يرفعك ، ولا واضع لمن رفعه الله سبحانه ، فاغتنم السلام ، وانشره في المجتمع الإسلامي ليسوده السلام.

ومنها : احترام الصديق إذا دخل في مجلس ، فإنّه ورد في الحديث الشريف : « المؤمن أعظم حرمةً من الكعبة » ، ويقول الإمام الكاظم (عليه السلام) : « لا تذهب الحشمة بينك وبين أخيك ، وابقَ منها ، فإنّ ذهابها ذهاب الحياة » ، وقال الرسول الأكرم : « إذا أتاكم سيّد قوم فاعرفوا سؤدده » ، فاحترام القادم لازم ، لا سيّما الصديق فيقام له إجلالا وإكباراً ، إلاّ أنّه ورد في مكارم الأخلاق للمرحوم الطبرسي : أنّ النبيّ كان يكره القيام له ، وكان يقول : « لا يقومنّ بعضكم لبعض كما يقوم العجم بل تزحزحوا عن مكانكم » ، ولكن ورد في الخبر أيضاً : « من قام لأخيه المؤمن سلخه الله من ذنوبه كما تسلخ الحيّة جلدها » ، والجمع بين الروايتين كما يظهر من التعليل في الاُولى والتشبيه بالعجم ، أنّه تارة يقام لشخص لمكانته الدنيوية ، كالغني وإن كان فاسقاً ، أو السلطان وإن كان جائراً ، أو العالم وإن كان سوءاً ، فهذا من قيام العجم ، كما يحدّثنا التأريخ به فهو مذموم ، وكان النبيّ يكره ذلك ، ولنا في رسول الله اُسوة حسنة ، واُخرى نقوم للشخص لإيمانه وتقواه ، وإن كان فقيراً وأسوداً حبشياً ، فإنّ النار لمن عصى الله وإن كان سيّداً قرشياً ، والجنّة لمن أطاعه وإن كان عبداً حبشياً ، فمثل هذا القيام الذي يكون لله سبحانه ، وتعظيماً لمقام العلم المقرون بالحلم والعمل الصالح ، وتكريماً للإيمان المقرون مع التقوى ، فإنّه ممدوح ويوجب غفران الذنوب ، فتأمّل.

ومنها : التوسّع في المجلس ، فإنّ من حقّ الداخل إلى المجلس ، لا سيّما الصديق والأخ على أخيه ، أن يكرمه بالتوسّع له في المجلس ، قال رسول الله (صلى الله عليه وآله) : « ثلاث يصفين ودّ المرء لأخيه المسلم : يلقاه بالبشر إذا لقيه ، ويوسع له في المجلس إذا جلس إليه ، ويدعوه بأحبّ الأسماء إليه » ، وفي آخر : « إذا أخذ القوم مجالسهم فإذا دعا رجل أخاه فأوسع له في مجلسه ، فليأتِ ، فإنّما هي كرامة أكرمه بها أخوه ، وإن لم يوسع له أحد ، فلينظر أوسع مكان يجده فليجلس فيه » ، وقال : « لئن يوسع أحدكم لأخيه في المجلس خير من عتق رقبة » ، ولقد سئل الإمام الصادق (عليه السلام)عن السبب الذي دعى جماعة إلى أن يقولوا لنبيّهم : إنّا نراك من المحسنين ، فقال (عليه السلام) : « كان يوسع للجليس ويستقرض للمحتاج ويعين الضعيف » . وقال الله سبحانه وتعالى : ( يا أ يُّها الَّذينَ آمَنوا إذا قيلَ لَكُمْ تَفَسَّحوا في الَمجالِسِ فَافْسَحوا يَفْسَحِ اللهُ لَكُمْ )[3] ، كان رسول الله إذا دخل منزلا ، قعد في أدنى المجلس حين يدخل ، وقال الإمام العسكري (عليه السلام) : « من رضي بدون الشرف من المجلس لم يزل الله وملائكته يصلّون عليه حتّى يقوم » ، « إذا أخذ القوم في مجالسهم فإن دعا رجل أخاه ، وأوسع له في مجلسه فليأته ، فإنّما هي كرامة أكرمه بها أخوه ، وإن لم يوسع له أحد فلينظر أوسع مكان يجده فليجلس فيه ».

ومنها : أن تذكره بكنيته في حضوره ، وتسمّه في غيابه ، فإنّ في الكنية احتراماً للصديق . يقول الإمام الرضا (عليه السلام) : « إذا كان الرجل حاضراً فكنّه ، وإذا كان غائباً فسمّه » ، فإنّك عندما تذكر صديقك في حضوره بكنيته وتناديه ( يا أبا فلان ) فإنّ ذلك يدلّ على تقديرك له واحترامك إيّاه ، ولكن لو كان غائباً وأردت تعريفه ، فتذكره بالإسم.

ومنها : مراعاة أدب الجلوس والحضور معه ، فإنّه ينمّ ويخبر عن الاحترام والتقدير له ، ويكون الجلوس بكلّ تواضع ولين ، ولا يتخطّى الرقاب لأجل أن يجلس في صدر المجلس ، فإنّ الإمام الصادق (عليه السلام) يقول : لا ينبغي للمؤمن أن يجلس إلاّ حيث ينتهي به الجلوس ، فإنّ تخطّي أعناق الرجال سخافة » ، « أمّا حقّ جليسك ، فأن تلين له جانبك ، وتنصفه في مجاراة اللفظ ، ولا تقوم من مجلسك إلاّ بإذنه ، ومن يجلس إليك يجوز له القيام عنك بغير إذنه ، وتنسى زلاّته وتحفظ خيراته ، ولا تسمعه إلاّ خيراً » . ومن أوصاف النبيّ أنّه ما رئي مقدّماً رجله بين يدي جليس له قطّ.

ومنها : أن يسمّي عطسته ، فإنّ العطسة علامة الصحّة والارتياح والنشاط ، وهو من الله سبحانه ، كما أنّ التثاؤب من الشيطان ، وهو علامة الكسل والنوم ، فإذا عطس أخيك المؤمن فهنّئه بالعافية والصحّة ، وادعو له قائلا : ( يرحمك الله ) أو ( يغفر الله لك ) والعاطس يجيبه ( أثابكم الله ) . وعن الإمام الباقر (عليه السلام) : كان إذا عطس فقيل له : يرحمك الله ، كان يقول : يغفر الله لكم ويرحمكم ، وإذا عطس عنده إنسان قال له : يرحمكم الله ، ولمّـا كان النبيّ وأمير المؤمنين علي يعطس أحدهما ، كان يقول الآخر : ( رفع الله شأنك على كعابك ) ، والعطسة إنّما تنبئ عن العافية والسلامة كما في علم الطبّ ، وقد ورد في الحديث الشريف : لو عطس ثلاث عطسات فإنّها عافية وعلامتها ، وأمّا إذا عطس أربعة فإنّه يخبر عن المرض ، كما ورد من عطس لا يموت إلى سبعة أيام ، ولمثل هذا يشكر الإنسان ربّه على السلامة والعافية والرحمة ، فيسمت السامع العاطس قائلا : ( يرحمك الله ) يعني أنّ الرحمة الإلهية شملتك ، وأنّ الغفران الإلهي عمّك ، فيجيبه العاطس : الله يثيبك على ما تفضّلت قائلا : ( أثابك الله ) ، وسعيد حقّاً ذلك المجتمع الذي يسوده الودّ والمحبّة والدعاء ، وما أسعد الصديقان اللذان يدعو أحدهما للآخر بالسلامة والعافية والصحّة.

ومنها : ترك المزاح الجارح ، وأصل المزاح بمعنى إدخال السرور في قلب المؤمن والدعابة المريحة ، فإنّه مباح بل يستحبّ ذلك ، لا سيّما في السفر كما ورد في الخبر ، كما جاء في الحديث الشريف : « مزاح المؤمن عبادة » ، وفي آخر : « إنّ هذه الأرواح تملّ كما تملّ الأجساد ، فروّحوا عنها بطرائف الحكم » . وهذا يعني أنّه في عين أنّه بتمازج لا بدّ أن يكون في ذلك أيضاً طريفة حكمية ، لا مجرّد اللقلقة والقهقهة ، بل لا يتجاوز في مزاحه الحقّ . وقال رسول الله : « إنّي لأمزح ولا أقول إلاّ حقّاً » ، « المؤمن دعب لعب ، والمنافق قطب غضب » ، « ما من مؤمن إلاّ وفيه دعابة ـ أي مزاح ـ ».

ولكن إذا كان المزاح بمعنى كثرة الضحك والسفاهة وجرح مشاعر الآخرين وإهانتهم ، فإنّه لم يكن مذموماً وحسب ، بل يكون محرّماً ، وما لم يصل إلى درجة الحرام وخرج عن الاستحباب ، فإنّه يكون مكروهاً ، وربما الروايات التي تذمّ المزاح من هذا المنطلق ، ففي الحديث الشريف : « كثرة الضحك تمجّ الإيمان مجّاً » ، وفي آخر : « إيّاكم والمزاح فإنّه يذهب بماء الوجه » ، وفي آخر : « إذا أحببت رجلا فلا تمازحه ولا تماريه » ، وفي آخر : « إذا أردت أن يصفو لك ودّ أخيك فلا تمازحنّه ولا تمارينّه ولا تشارينّه » ، « إيّاكم والمزاح فإنّه يجرّ السخيمة ويورث الضغينة وهو السبّ الأصغر » . ويقول الإمام الصادق (عليه السلام) : « إيّاكم والمزاح فإنّه يذهب بماء الوجه ومهابة الرجل » ، ثمّ قال : وكان أصحاب رسول الله يجلسون فيلهون ويتحدّثون ويضحكون ، حتّى أنزل الله قوله : ( ألَمْ يَأنِ لِلَّذينَ آمَنوا أنْ تَخْشَعَ قُلوبُهُمْ لِذِكْرِ اللهِ )[4] فلمّـا قرأ رسول الله عليهم هذه الآية تركوا حديث اللهو والمزاح . وهناك روايات تمدح المزاح ولكن بشروط ، قال الإمام الصادق (عليه السلام) : « إنّ الله يحبّ المداعبة بالجماعة بلا رفث » ، أي بلا فسوق وجدل وجرح المشاعر . وفي الحديث الشريف : « ما من مؤمن إلاّ وفيه دعابة » ، وكان النبيّ كثير التبسّم ، بشره في وجهه ، وهذا يعني مدح التبسّم ، ولكنّ الضحك والقهقهة بالخصوص فإنّه مذموم ، كما ورد في الخبر الشريف : « القهقهة من الشيطان » ، وقال الأمير (عليه السلام) : « إحذر الهزل واللعب وكثرة الضحك والمزح والترّهات » ، « من قلّ عقله كثر هزله » ، « الكامل من غلب جدّه هزله » ، « كثرة الهزل آية الجهل » ، « غلبة الهزل تبطل عزيمة الجدّ » ، « لا تهزل فتحقر » ، « من كثر مزاحه قلّ وقاره » ، « الإفراط في المزاح خرق ».

ومنها : ترك التناجي أمام الآخرين ، فيما كان المجلس خاصّاً يضمّ عدداً قليلا من الأصدقاء والأحبّاء ، قال الله تعالى : ( إنَّما النَّجْوى مِنَ الشَّيْطانِ ليحْزن الَّذينَ آمَنوا )[5] ، ويقول أمير المؤمنين (عليه السلام) : « إذا كان القوم ثلاثة من المؤمنين فلا يتناج منهم اثنان دون صاحبهما ، فإنّ ذلك ممّـا يحزنه ويؤذيه » ، وقال رسول الله (صلى الله عليه وآله) : « إذا كنتم ثلاثة فلا يتناجى رجلان دون الآخر حتّى يختلطوا بالناس ، فإنّ ذلك يحزنه » ، قال الله تعالى : ( ألَمْ يَعْلَموا أنَّ اللهَ يَعْلَمُ سِرَّهُمْ وَنَجْواهُمْ وَأنَّ اللهَ عَلاّمُ الغُيوبِ )[6].

والنجوى بين الإثنين مع حضور ثالث كإنّما يخمش وجهه ، والخمش من فعل الحيوانات الضارية ، فيدلّ على الروح السبعيّة التي لم تهذّب ، وتسلّطت القوّة الغضبيّة السبعيّة على باقي القوى ، فمثل هذا يكون في حدّ الحيوانية ، ولم يصل إلى جوهره وحقيقته وحدّه الإنساني الملاكي ، فإنّ الإنسان بين أن يعلو ويصل إلى قاب قوسين أو أدنى ، وتخدمه الملائكة وتفرش له أجنحتها كطالب العلم كما ورد في الخبر الشريف ، وبين أن يكون في الهاوية كالأنعام بل أضلّ سبيلا ، وذلك لما يحمل الإنسان من الروح الإلهيّة ( وَنَفَخْتُ فيهِ مِنْ روحي )[7] من جانب ، ولما يحمل من النفس الحيوانية من جانب آخر ، وحينئذ لو لم يصل إلى كمالاته المكنونة في جبلته ، ولم تنتهي تلك الروح إلى مفيضها الأوّل سبحانه وتعالى ، بل تغلّبت عليه النفس الحيوانية من اتّباع الشهوات والوهميات ، فإنّه يكون أضلّ من الأنعام ، فإنّ الأنعام لم تكن لها الروح الإنسانية والنفس الناطقة ، وهذا كان له ، ومع ذلك أصبح كالأنعام ، فلا ريب يكون أضلّ سبيلا ، فتدبّر.

ومنها : الزيارة في الحضر ، فإنّه من زار أخاه المؤمن ، كأ نّما زار الله في عرشه كما ورد في الخبر الشريف ، وقال رسول الله (صلى الله عليه وآله) : « من زار أخاه المؤمن إلى منزله ، لا حاجة منه إليه ، كتب من زوّار الله ، وكان حقيقاً على الله أن يكرم زائره » ، وقال الإمام الصادق (عليه السلام) : « من زار أخاه في الله عزّ وجلّ قال الله : ( إيّاي زرت ، وثوابك عليّ ، ولست أرضى لك ثواباً دون الجنّة ) » . وقال الإمام الكاظم (عليه السلام) : « ليس شيء أنكى لإبليس وجنوده عن زيارة الإخوان في الله بعضهم » ، وقال الإمام الصادق (عليه السلام) : « من زار أخاه في الله ولله ، جاء يوم القيامة يخطر بين قباطي من نور ، لا يمرّ بشيء إلاّ أضاء له » ، « ما زار مسلم أخاه في الله ولله ، إلاّ ناداه الله عزّ وجلّ : أيّها الزائر طبت وطابت لك الجنّة » ، وقال الأمير (عليه السلام) : « لقاء أهل الخير عمارة القلوب » ، وقال الإمام الباقر (عليه السلام) : « تزاوروا في بيوتكم فإنّ ذلك حياة لأمرنا ، رحم الله عبداً أحيا أمرنا » . ولازم مثل هذا التزاور أن يذكر فيه فضائل ومناقب أهل البيت ومثالب أعدائهم ، حتّى يتمّ معنى إحياء أمر الأئمة الأطهار (عليهم السلام)وولايتهم الكبرى التي هي من ولاية الله ورسوله ، والتي لا تتمّ إلاّ بالتولّي والتبرّي.

ومنها : المكاتبة في السفر ، فإنّها من أسباب المودّة والعلاقة الوثيقة بين الصديقين ، فإنّ من يكتب لأخيه وصديقه ، إنّما يسجّل له حبّه وتقديره للتأريخ ، فعلينا أن نعوّد أنفسنا على كتابة الرسالة ، كما علينا أن نجيب الرسائل ، يقول الإمام الصادق (عليه السلام) : « ردّ جواب الكتابة واجب كوجوب ردّ السلام » ، وقال (عليه السلام) : « يستدلّ بكتاب الرجل على عقله وموضع بصيرته ، وبرسوله على فهمه وفطنته » ، قال الأمير (عليه السلام) : « كتابك أبلغ ما ينطق عنك » ، وقال الإمام الصادق (عليه السلام) : « التواصل بين الإخوان في الحضر التزاور ، والتواصل في السفر المكاتبة ».

ومنها : ترك خيانة الصديق ، فإنّ علاقة الصداقة من العلائق المقدّسة ، والخيانة تضرم النار فيها وتحرقها وتفنيها ، والخيانة في عالم الصداقة تعني أن يبطن الصديق لصديقه عكس ما يظهره ، ففي الوجه كالمرآة ، ولكن في الخلف خنجر قتّال . قال الإمام الصادق (عليه السلام) : « المسلم أخ المسلم ، لا يظلمه ولا يخذله ولا يغشّه ولا يغتابه ولا يخونه ولا يكذبه » ، فالصديق حقّاً من يصدق معك في كلّ الحالات ، في الغيبة والحضور ، في الظاهر والباطن ، سرّاً وعلناً ، في السرّاء والضرّاء ، في الفقر والغنى ، عنه (عليه السلام) : « لا تغشش الناس فتبقى بغير صديق » ، وقال رسول الله (صلى الله عليه وآله) : « من غشّنا فليس منّا ».

وعلينا أن نكتم أسرار الصديق ، ففي الحديث الشريف : « سرّك في دمك فلا يجر في غير أوداجك » ، وقال الإمام الصادق (عليه السلام) : « من الخيانة أن تحدّث بسرّ أخيك » ، ولا تخون الصديق عند الاستشارة ، يقول رسول الله (صلى الله عليه وآله) : « من أشار على أخيه بأمر يعلم أنّ الرشد في غيره فقد خانه ».

ولا نضمر السوء للأصدقاء ، يقول الإمام الباقر (عليه السلام) : « عليكم بتقوى الله ، ولا يضمرنّ أحدكم لأخيه أمراً لا يحبّه لنفسه ، فإنّه ما من عبد يضمر لأخيه أمراً لا يحبّه لنفسه ، إلاّ جعل الله ذلك سبباً للنفاق في قلبه » ، يقول الشاعر :

يعطيك من طرف اللسان حلاوة *** ويروغ عنك كما يروغ الثعلبُ

والنفاق ثقيل على النفس ، فلماذا لا نتعامل مع الناس ومع الأصدقاء بصدق ، فلنحبّ بصدق ولنكره بصدق ، ومن صدق الصداقة أن لا يحفظ على الصديق زلاّته ، يقول رسول الله : « أدنى الكفر أن يسمع الرجل من أخيه الكلمة فيحفظها عليه يريد أن يفضحه بها ، اُولئك لا خلاق لهم » ، ومن الصدق أن لا تكذب على الصديق ، يقول الإمام الصادق (عليه السلام) : « كبرت خيانة أنّ تحدّث أخاك حديثاً هو لك به مصدّق ، وأنت له به كاذب » . ومن الصدق حفظ الصديق أن لا يسقط ، قال الإمام الصادق (عليه السلام) : « من رأى أخاه على أمر يكرهه ولم يردعه فقد خانه ، وله الحقّ غداً عليه ».

والصداقة تنمو برعايتها وسقايتها بماء الحبّ والإخلاص ، فأخبر من تحبّه بذلك كما وردت الروايات في ذلك ، بل قال رسول الله (صلى الله عليه وآله) : « من كان لأخيه المسلم في قلبه مودّة ، ولم يعلمه فقد خانه ».

وتحرم الغيبة بأن يذكر في الطرف الآخر ما لو سمعه كرهه ، ويقول الرسول (صلى الله عليه وآله) : « من روى عن أخيه رواية يريد بها هدم مروءته وسلبه ، أوبقه الله بخطيئته حتّى يأتي بمخرج ممّـا قال ، ولن يأتي بالمخرج أبداً » ، ويقول الله سبحانه : ( وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضاً أيُحِبُّ أحَدُكُمْ أنْ يَأكُلَ لَحْمَ أخيهِ مَيْتاً فَكَرِهْتُموهُ )[8].

ثمّ علينا أن نغتنم فرصة إقبال الناس علينا ، فإنّه ورد في الحديث الشريف :
« ما اكتسب العبد بعد الإيمان أفضل من أخ في الله» ، فلا تزهد فيمن رغب فيك ، يقول أمير المؤمنين علي (عليه السلام) : « زهدك في راغب فيك نقصان حظّ ، ورغبتك في زاهد فيك ذلّ نفس » ، والمؤمن عزيز بعزّة الله سبحانه ، ولا يحقّ له أن يذلّ نفسه مهما كانت الظروف ، فلا يرضى بالذلّ والهوان والخنوع ، فمن يزهد فيك ولا يرغب في صداقتك كيف ترغب إليه ؟ ! !

وعلينا أن لا نفرّط بالأصدقاء القدامى ، يقول رسول الله (صلى الله عليه وآله) : « إنّ الله يحبّ المداومة على الإخاء القديم فداوموا عليه » ، ويقول أمير المؤمنين عليّ (عليه السلام) : « إختر من كلّ شيء جديده ، ومن الأخوان أقدمهم » ، وقال (عليه السلام) : « من علامة كرم النفس بكاؤه على ما مضى من زمانه ، وحنين إلى أوطانه ، وحفظه قديم إخوانه » ، وجاء في وصيّة النبيّ داود لولده سليمان قائلا : « يا بني لا تستبدلنّ أخاً قديماً مستفاداً ما استقام لك ، ولا تستقلنّ أن يكون لك عدوّ واحد ولا تستكثرنّ أن يكون لك ألف صديق » ، « عدوّ واحد كثير وألف صديق قليل » ، بل علينا أن نراعي حقوق أصدقاء الوالد أيضاً ، فقد قال رسول الله (صلى الله عليه وآله) : « لا تقطع أوداء أبيك فيطفئ نورك » ، كما على الصديق أن يحفظ أولاد صديقه ، فيزورهم ويتعهّدهم ، ويقضي حوائجهم ويكرمهم ويعزّهم ، وورد في الحديث الشريف : « يحفظ المرء في ولده ».

ولا نصادق من يكون ملولا ، فيقول الإمام الصادق (عليه السلام) : « لا تثق بمودّة ملول ، فإنّه أوثق ما كانت به خذلك وأوصل ما كنت قطعك » ، وقال (عليه السلام) : « ليس لملول علم ولا لملول صديق ولا لملول حظّ في هذه الحياة » ، وقال (عليه السلام) : « الملل يفسد الاُخوّة » ، فلا بدّ من المحافظة على الأصدقاء القدماء ، ولا نملّ من كسب الصداقة الجديدة.

وإذا قطع الصديق علاقته لسوء تفاهم مثلا ، فعلينا أن نبادر في صلته ، يقول أمير المؤمنين (عليه السلام) : « إحمل نفسك من أخيك عند صرفه على الصلة إذا قطعك ، وعند جموده على البذل ، وعند تباعده على الدنوّ ، وعند شدّته على اللين ، وعند جرمه على العذر ، حتّى كأ نّك له عبد ».

وقال (عليه السلام) : « عاتب أخاك بالإحسان إليه واردد شرّه بالإنعام عليه » ، « عجبت لمن يشتري العبيد بأمواله ، كيف لا يشتري الأحرار بإحسانه » ، صحيح ما ورد في الحديث الشريف : « إنّ الله أوكل إلى عبده المؤمن كلّ شيء ولم يوكل إليه أن يذلّ نفسه » ، فالمؤمن عزيز لا يذلّ نفسه ، وهيهات منه الذلّة ، فكيف يكون لصديقه عبداً ؟ فأجاب أمير المؤمنين على ذلك قائلا : « وإيّاك أن تضع ذلك في غير موضعه ، أو أن تفعله لغير أهله » ، فالتواضع والتذلّل لأهله ممدوح ، كما قال سبحانه وتعالى : ( أذِلَّة عَلى المُؤْمِنينَ أعِزَّة عَلى الكافِرينَ ) ، فلا بدّ من معرفة كميّة المجاملة والتذلّل وكيفيّتها ، ومع من يكون ذلك ؟ فإنّ الصديق لو كان متكبّراً ؟ فقد ورد في الحديث الشريف : « التكبّر على المتكبّر عبادة » ، فالتواضع والصلة مع أهلها جيّدة . والعاقل العادل الذي يضع الأشياء في مواضعها.

وجاء في دعاء مكارم الأخلاق للإمام السجّاد (عليه السلام) : « اللّهم سدّدني لأن اُعارض من غشّني بالنصح وأجزي من هجرني بالبرّ ، واُصيب من حرمني بالبذل ، واُكافئ من قطعني بالصلة ، واُخالف من اغتابني إلى حسن الذكر ، وأن أشكر الحسنة وأغضي عن السيّئة ».

وقال أمير المؤمنين علي (عليه السلام) : « أطع أخاك وإن عصاك ، وصله وإن جفاك » ، وقال (عليه السلام) : « من المروءة احتمال جنايات الإخوان ».

وعلى المرء أن يكون متواضعاً كالبحر ، فيلمّ بين طيّاته الكنوز واللآلي ، ثمّ إذا شاءت الظروف قطيعة الصديق ، فحاول أن تجعل لنفسك خطاً للرجوع ، ولا تكسر كلّ الجسور خلفك ، يقول أمير المؤمنين علي (عليه السلام) : « إن أردت قطيعة أخيك فاستبقِ له من نفسك بقيّة ، يرجع إليها إن بدا له ذلك يوماً ما ».

ثمّ علينا أن نصافي بين صديقين متنازعين ، قال أمير المؤمنين في أواخر لحظات حياته الشريفة في وصيّة لولديه الحسن والحسين (عليهما السلام) : « اُوصيكما وجميع أهلي وولدي ومن بلغه كتابي هذا بتقوى الله ونظم أمركم ... الله الله في إصلاح ذات بينكم فإنّي سمعت جدّكما رسول الله (صلى الله عليه وآله) يقول : إصلاح ذات البين أفضل من عامّة الصلاة والصيام ».

وقال الإمام الصادق (عليه السلام) : « صدقة يحبّها الله : الإصلاح بين الناس إذا تفاسدوا ، والتقريب بينهم إذا تباعدوا » ، وقال : « كلّ كذب مسؤول عنه يوم القيامة إلاّ ثلاثة : رجل كائد في حربه ، فهو موضوع عنه ، ورجل أصلح بين اثنين يلقى هذا بغير ما يلقى هذا ، ورجل وعد أهله شيئاً ولا يريد أن يتمّ لهم عليه ، يريد بذلك دفعاً » . فكن أ يّها الأخ الكريم حاملا لوردة الإصلاح ، حينما يكون الخلاف بين صديقين وقريبين ، وسوف تلمس وتحسّ بلذّة عملك هذا ، فسارعوا إلى مغفرة من ربّكم وجنّة عرضها السماوات والأرض.


[1]النور : 27.

[2]النور 57 ـ 58.

[3]المجادلة : 11.

[4]الحديد : 16.

[5]المجادلة : 10.

[6]التوبة : 78.

[7]الحجر : 29.

[8]الحجرات : 11.

الفصل السادس