الفصل  الرابع - أجواء  الصداقة  وأرضيّتها

لقد وقفنا في الحلقات والفصول السابقة ولو إجمالا ، على ضرورة الصديق والصداقة في حياة الإنسان ، وعرفنا أهمّ معالم الصداقة والأصدقاء ، وحقوقهم ، وحدود الاُخوّة وآدابها ، وقدسيّتها ، وأبرز الفنون لكسب الأصدقاء ، وفي هذا الفصل نبغي أن نعيش أجواء الصداقة ، وأرضيّتها ومصاديقها ، ثمّ كيف نتعامل مع الناس ، والصداقة إنّما تنمو في محيطها وأجوائها الخاصّة ، لولاها لفسدت وماتت.

فلا بدّ أوّلا في عالم الاُخوّة والصداقة من الثقة المتبادلة ، والاحترام المتقابل ، كما مرّ ذلك ، فإنّ سوء الظنّ بين الصديقين يوجب العداء والنكد والفرقة والتشاحن ، والثقة إنّما تكون بالشكل المتعارف ، والحدّ المعتدل ، بلا إفراط ولا تفريط ، قال الله تعالى : ( يا أ يُّها الَّذينَ آمَنوا اجْتَنِبوا كَثيراً مِنَ الظَّنِّ إنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إثْمٌ )[1] . نعم ورد في الحديث الشريف : إذا صلح الزمان فأحسن الظنّ أوّلا ، وإذا فسد فإنّ « سوء الظنّ من حسن الفطن » ، كما عن أمير المؤمنين . والجمع بين المعنيين : من ناحية يقال : ( بعض الظنّ إثم ) ومن ناحية اُخرى يقال : ( سوء الظنّ من حُسن الظنّ ) ، هو : أن نتعامل مع الحذر والحزم من دون أن نرتّب أثراً عمليّاً على سوء الظنّ ، وقد جاء في الحديث الشريف : « أحبب حبيبك هوناً عسى أن يكون بغيضك يوماً ما ، وابغض بغيضك هوناً ما ، عسى أن يكون حبيبك يوماً ما » ، وهذا المعنى جربّناه كثيراً ، فما من واحد ، إلاّ وله عشرات من الأمثلة والنماذج التي جرت عليه ، أو على غيره من الأصدقاء ، الذين كنت تودّهم وتبذل كلّ شيء من أجلهم ، وإذا به بمرور الزمان لاُمور تافهة ، ينقلب عليك ويكون عدوّك ، والسعيد من اتّعظ بغيره.

فبعد اختبار صديقك ، واختياره عن علم ، عليك أن تترك سوء الظنّ معه ، فقد جاء في الحديث الشريف : « احمل فعل أخيك على سبعين محمل » ، و « ضع أمر أخيك على أحسنه حتّى يأتيك ما تقبله منه » ، « ولا تظنّ بكلمة خرجت من أخيك سوءاً ، وأنت تجد لها في الخير محملا » ، والشيطان هو الذي يزرع بذرة سوء الظنّ في قلب الإنسان : ( إنَّما يُريدُ الشَّيْطانُ أنْ يوقِعَ بَيْنَكُمُ العَداوَةَ وَالبَغْضاءَ )[2] ، وقال الله تعالى : ( يا أ يُّها الَّذينَ آمَنوا إنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَأ فَتَبَيَّنوا أنْ تُصيبوا قَوْماً بِجَهالَة فَتَصْبَحوا عَلى ما فَعَلـْتُمْ نادِمينَ )[3] ، ويقول الإمام السجّاد (عليه السلام) : « المؤمن أخ المؤمن لا يشتمه ولا يحرمه ولا يسيء الظنّ به » ، وقال أمير المؤمنين علي (عليه السلام) : « لا يفسدك الظنّ على صديق أصلحه اليقين » ، وقال (عليه السلام) : « من عرف من أخيه وثيقة دين وسداد طريق ، فلا يسمعنّ فيه أقاويل الرجال ، أما إنّه قد يرمي الرامي وتخطي السهام ويحيل الكلام » ، وفي آخر : « من أطاع الواشي ضيّع الصديق » ، فالأصل في الصداقة والأصدقاء ، هو الثقة المتبادلة ، وحسن الظنّ ، ولا تسمعنّ فيهم واشياً ولا تصغي عليهم لفاسق ، وعلينا أن لا نعرض أنفسنا في مواضع التهمة ، ففي الحديث الشريف : « من عرّض نفسه للتهمة فلا يلومنّ من أساء به الظنّ » ، وفي آخر : « اتّقوا مواضع التهم ».

ثمّ من أرضيّة الصداقة : التواضع ولين العريكة وخفض الجناح ، والتواضع فنّ ، كسائر الفنون التي تحتاج إلى التدريب والتمرين حتّى تكون ملكة للإنسان ، ويعني التواضع : الذلّة واللّين من موضع القوّة للمؤمنين ، كما في قوله تعالى : ( أذِلَّة عَلى المُؤْمِنينَ )[4] ، لا التصاغر المصحوب بالشعور بالدناءة والاحتقار والخسّة والنقص ، بل التواضع الممدوح يعني احترام الآخرين ، فالمؤمن كما في وصف أمير المؤمنين (عليه السلام) : « سهل الخليقة لين العريكة لنفسه ، أصلب من الصلد وهو أذلّ من العبد » فالمؤمن صلب ولكن مع ذلك هو ذليل للحقّ ، وهذا هو جوهر التواضع وحقيقته ، ومن تواضع لله رفعه الله ، ولنأخذ درساً قيّماً من أئمة أهل البيت (عليهم السلام) في طريقة التواضع ، فقد جاء في الأثر أنّ الإمام الكاظم (عليه السلام) مرّ برجل من أهل السواد ذميم المنظر ، وكان الإمام راكباً ، فنزل من فرسه وجلس عنده ، وحاوره في حديث طويل ، ولمّـا أراد الانصراف (عليه السلام) قال له بعض الحاضرين مستغرباً : يا ابن رسول الله ، أتنزل إلى هذا المستوى رغم منزلتك وشرفك وعلمك ؟ فقال (عليه السلام) : ولم لا ؟ إنّه « عبد من عبيد الله ، وأخ في كتاب الله ، وجارٌ في بلاد الله ، يجمعنا وإيّاه خير الآباء آدم وأفضل الأديان الإسلام » . وإنّ الإمام الرضا (عليه السلام) دعا إلى مائدة في خراسان فجمع عليها مواليه والعبيد فقال له أحد المدعوّين : جعلت فداك ، لو عزلت هؤلاء ـ يعني الموالي والعبيد ـ فقال (عليه السلام) : « مه يا هذا ، إنّ الربّ تبارك وتعالى واحد ، والاُمّ واحدة ، والأب واحد ، والجزاء بالأعمال » . فالتواضع أن تبسط جناح الذلّ من الرحمة ، وأن ترضى بالجلوس في أيّ مكان ينتهي بك المجلس.

عن عباد بن عبد الله الأسدي قال : كنت جالساً يوم الجمعة وعلي (عليه السلام)يخطب على منبر من آجر ، وابن صوحان جالس ، فجاء الأشعث فجعل يتخطّى الناس وهو يريد الجلوس في الصفوف الاُولى ، فقال : يا أمير المؤمنين ، غلبتنا هذه الحمراء على وجهك ، فغضب الإمام من كلامه فقال ابن صوحان : ليبيّن اليوم أمير المؤمنين من أمر العرب ما كان يخفى ، فقال علي (عليه السلام) : « من يعذرني من هؤلاء الضياطرة ، يتقلّب أحدهم على حشاياه ، ويهجّر قوم لذكر الله ؟ ! فيأمرني أن أطردهم فأكون من الظالمين ، الذي فلق الحبّة وبرأ النسمة ، لقد سمعت محمّد (صلى الله عليه وآله)يقول : ليضربنّكم والله على الدين عوداً ، كما ضربتموهم عليه بدءاً » ، ويقول الإمام الصادق (عليه السلام) : « من التواضع أن يجلس الرجل دون شرفه » ، وفي آخر : « أن تحمل حاجاتك بين يديك » ، وكان أمير المؤمنين علي (عليه السلام) حاكماً على خمسين دولة ، وكان يمشي في الأزقّة ، حاملا متاعه على كتفيه ويقول : « صاحب العيال أحقّ بحمله » ، « لا ينقص الرجل الكامل من كماله ما يحمله من شيء إلى عياله » ، ومن التواضع « أن تقوم بما يقوم به الناس » ، قال الرسول الأكرم : « من اعتقل البعير ولبس الصوف فقد برء من الكبر » ، والمقصود من عقل البعير أن يقوم الناس بواجباته الشخصيّة بنفسه ، فإنّ الرسول الأكرم كان يقول : « إنّما أنا عبد أكل من الأرض وألبس الصوف وأعقل البعير وألعق أصابعي واُجيب دعوة المملوك ، فمن رغب عن سنّتي فليس منّي » ، ومن التواضع أن لا يتميّز الإنسان بين أصدقائه وأصحابه ، فمن أخلاق النبيّ الذي مدح الله خلقه ، أنّه كان في أصحابه كأحدهم ، حتّى الداخل عليهم لا يميّزه من بينهم « كُلُّكُمْ مِنْ آدَمْ ، وَآدَمُ مِنْ تُراب » ، قال أمير المؤمنين علي (عليه السلام) : « من أراد أن ينظر إلى رجل من أهل النار فلينظر إلى رجل جالس وبين يديه ( اُناس ) قيام » ، و « هلك من يخفق النعال خلفه » ، و « من أخفق النعال خلفه فهو ضالّ ومضلّ » ، ومن التواضع كما ورد عن أبي الحسن (عليه السلام) : « أن تعطي للناس ما تحبّ أن تُعطى » ، ولنا في رسول الله اُسوة حسنة ، فإنّه (صلى الله عليه وآله) : « كان يعقل البعير ، ويكنس البيت ، ويجلب الشاة ، ويصلح النعل ، ويرقع الثوب بيديه ، ويأكل مع خادمه ، ويطحن عنه إذا تعب ، ويشتري من السوق ، ولا يمنعه الحياء أن يلعق أصابعه من الطعام بعده ، وكان يصافح الغني والفقير والكبير والصغير والأسود والأبيض ، ويبادر بالسلام ، ولم يسبقه أحد ، وإذا دعي أجاب الدعوة ولو كانت من مملوك أو فقير ، كان هيّن المؤونة ليّن الخلق كريم الطبع جميل المعاشرة طلق الوجه دائم البشر ، حازماً في لين ، متواضعاً من غير صغار ، حليماً من غير استسلام » ، والله سبحانه كما قاله في كتابه الكريم : ( إنَّهُ لا يُحِبُّ المُسْتَكْبِرينَ )[5] والتكبّر مع المتكبّرين عبادة ، والكبرياء رداء الله ، فمن نازع الله في ردائه ، أكبّه الله على منخريه في النار ـ كما ورد في الحديث الشريف ـ ويقول الإمام الصادق (عليه السلام) : « ما من رجل تكبّر أو تجبّر إلاّ لذلّة وجدها في نفسه » ، وفي آخر : « من حقّر الناس وتجبّر عليهم فذلك الجبّار » ، ويقول (عليه السلام) : « لا يدخل الجنّة من كان في قلبه مثقال حبّة من خردل من كبر » ، ويقول الرسول الأعظم (صلى الله عليه وآله) : « بئس العبد عبد تجبّر واعتلى ونسي الجباء الأعلى ... تبختر واحتال ونسي الكبير المتعال ، غفل وسهى ونسي المقابر البلى ... وعتى وبغى ونسي المبدأ والمنتهى » ، ويحشر المتكبّرون يوم القيامة بصور الذرّ ، أذلاّء حقراء تطؤهم الناس لهوانهم على الله ـ كما في الخبر الشريف ـ ويقول الأمير (عليه السلام) : « كفى بالمرء غروراً أن يثق بكلّ ما تسوّل له نفسه ، وكفى بالمرء منقصة أن يعظم نفسه » ، وفي آخر : « من تكبّر على الناس ذلّ » ، « شرّ آفات العقل الكبر » ، « ما دخل قلب امرئ شيء من الكبر ، إلاّ نقص من عقله مثل ما دخله من ذلك ، قلّ أو كثر » ، ويقول الأمير (عليه السلام) : « اعتبروا بما كان من فعل الله بإبليس إذ أحبط عمله الطويل وجهده الجهيد ، وقد كان عبد الله ستّة آلاف سنة لا يُدرى أمن سنيّ الدنيا أم من سنيّ الآخرة ؟

ومن كان أوّله نطفة ندرة ، وآخره جيفة قذرة ، وما بينهما يحمل العذرة ، كيف يتكبّر على الناس ، فمن الحماقة والجنون من أدرك هذه الحقيقة ، وعرف الواقع ولا يزال يتكبّر على الناس ، فإنّه يروى أنّ الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله) مرّ برجل مصروع وقد اجتمع الناس حوله ، فقال النبيّ : على ما اجتمع الناس ؟ فقيل : على مجنون مصروع ، فقال (صلى الله عليه وآله) : « ما هذا مجنون ، وإنّما هذا المبتلى ، ألا اُخبركم بالمجنون حقّاً ؟ قالوا : بلى يا رسول الله . فقال : إنّ المجنون حقّاً المتبختر في مشيه ، الناظر في عطفه ، المحرّك جنبيه بمنكبيه ، الذي يرجو من الله رحمته وهو مقيم على معصيته ، فذاك المجنون حقّاً » ، فيا هذا هل للتكبّر بعد هذا من مجال ؟ وهل بعد الحقّ إلاّ الضلال.

وأمّا كيفيّة التعامل مع الناس ولا سيّما الأصدقاء ، فأفضل سلوك هو أن تحبّ لهم ما تحبّ لنفسك . قال رسول الله : « لا يؤمن أحدكم حتّى يحبّ لأخيه ما يحبّ لنفسه » ، فالناس لهم مشاعر وأحاسيس وعواطف ورغبات كما لك ذلك ، وكما تحبّ أن يتعامل معك من الإحسان والمعاشرة الطيّبة والبذل والعطاء والتنازل وكلّ شيء ، فكذلك عليك أن تراعي الآخرين ، والناس يحبّون من يبجّلهم ويعطيهم الثقة
بقدارتهم وقواهم ، وإذا كان صيّاد السمك ، إنّما يصطاد بما يحبّه السمك من الديدان لا بما يحبّه الصيّاد ، فلماذا لا نستخدم هذه الطريقة في كسب الأصدقاء واصطيادهم ، ولنتكلّم عمّـا يحبّه الصديق لا عمّـا نحبّه ، فهناك سرّ للنجاح ، وهو القدرة على إدراك وجهة نظر الشخص الآخر ، والنظر إلى الأشياء بالمنظار الذي ينظر به إليها ، وإنّما يرتاح الناس إلى من يعبّر عن ضمائرهم وأحاسيسهم ، وبهذا الاُسلوب الرصين في القرآن الكريم يجذب الناس إلى الإيمان بقيم السماء ورسالات الأنبياء كما في قوله تعالى : ( وَلَوْ أنَّ أهْلَ القُرى آمَنوا وَاتَّقوا لَفَتَحْنا عَلَيْهِمْ بَرَكات مِنَ السَّماءِ وَالأرْضِ )[6] ، فكلّ واحد يريد البركة من السماء والأرض ويحبّ ذلك ، فالقرآن يدعوه إلى الإيمان من خلال من يحبّه ، وقد جاء في الحديث القدسي عن الله سبحانه : « يا عبادي ، إنّي لم أخلقكم لأربح عليكم بل لتربحوا عليّ » ، والربح هنا في الدنيا والآخرة ، أمّا في الدنيا فقوله تعالى : ( وَمَنْ يَتَّقِ اللهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَج; وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبْ )[7] ، وأمّا الآخرة فقوله سبحانه وتعالى : ( وَسارِعوا إلى مَغْفِرَة مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٌ عَرْضُها السَّماواتُ وَالأرْضُ اُعِدَّتْ لِلـْمُتَّقينَ )[8] ، واُسلوب الأنبياء في هداية الناس أوّلا بالتبشير وإذا لم ينفع فبالإنذار كما قال عزّ وجلّ : ( كانَ النَّاسُ اُمَّةً واحِدَةً فَبَعَثَ اللهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرينَ وَمُنْذِرينَ وَأنْزَلَ مَعَهُمُ الكِتابَ بِالحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فيما اخْتَلَفوا فيهِ )[9] ، ويقول أمير المؤمنين علي (عليه السلام) : « أحسن إلى من شئت تكن أميره ، وارغب إلى من شئت تكن أسيره ، واستغنِ عمّن شئت تكن نظيره » ،
وقد وصف أمير المؤمنين (عليه السلام) الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله) : « كان فينا كأحدنا ».

ويقول (عليه السلام) لولده الحسن (عليه السلام) : « يا بني ، اجعل نفسك ميزاناً فيما بينك وبين غيرك فأحبب لغيرك ما تحبّ لنفسك ، واكره له ما تكره لها ، ولا تظلم كما لا تحبّ أن تُظلم ، وأحسن كما تحبّ أن يحسن إليك ، واستقبح من نفسك ما تستقبح من غيرك » ، والإسلام لا يطالب بأن نحبّ للآخرين كما نحبّ لأنفسنا وحسب ، بل يحثّنا على أن نؤثر الآخرين على أنفسنا ، وهذه من الروح السامية ، ومن يضحّي من أجل الآخرين ، يكون بالطبع سيّدهم وعظيماً فيهم ، كما خلّد التأريخ كثير من العظماء من أجل تضحيتهم لشعوبهم وجماهيرهم ، والله سبحانه يقول : ( وَيُؤْثِرونَ عَلى أنْفُسِهِمْ وَلَوْ كانَ بِهِمْ خَصاصَة )[10] ، أي حتّى لو كان الشيء يخصّهم ومن حقّهم ، ولكن مع ذلك يتنازلون للآخرين ، ويؤثرونهم على أنفسهم ، وهذه من آيات الرفعة وسموّ الروح وتعاليها ، ويقول أمير المؤمنين علي (عليه السلام) : « ذلّلوا أخلاقكم بالمحاسن ، وقودوها إلى المكارم ، وعوّدوها الحلم ، وصبّروا على الإيثار أنفسكم » ، وفي الحديث الشريف : « إنّ لله جنّة لا يدخلها إلاّ ثلاثة : رجل حكم على نفسه بالحقّ ، ورجل زار أخاه في الله ، ورجل آثر أخاه المؤمن » ، وأهل البيت هم القدوة في الإيثار ، كما جاء قصّتهم في سورة الدهر : ( وَيُطْعِمونَ الطَّعامَ عَلى حُبِّهِ مِسْكيناً وَيَتيماً وَأسيراً إنَّما نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللهِ لا نُريدُ مِنْكُمْ جَزاءً وَلا شُكوراً )[11]فباتوا ثلاثة أيام جياع بعد أن صاموا نهارها ـ عليهم صلوات الله ـ .

ثمّ إنّما تدوم الصداقة وتنفذ في أعماق قلب الصديق بالأخلاق الحسنة وبدوافع الخير عند الناس ، يقول رسول الله مخاطباً عشيرته : « يا بني عبد المطلب ، إنّكم لن تسعوا الناس بأموالكم فسعوهم بأخلاقكم » . فعلينا أن نتعامل مع الآخرين بخلق رفيع فيشاطرك بذلك ، فمن يخاطب الناس بكلام لطيف وسلوك جميل فكذلك ، الناس يتعاملون معه ، فإنّ الفطرة السليمة تستدعي ذلك ، وحينما تبني لشخص في قلبك قصراً من زجاج شفّاف ، فإنّه لن يحاول أن يرميه بالحجر ، ومن تقول له إنّي أتوسّم فيك الخير ، وأنت من أهل الإحسان والصلاح ، فإنّه يعمل الخير ، ويستجيب لطلباتك ، ولا يردّك خائباً ، لأ نّك توسّلت بدافع النبل والخير التي أودعها الله في وجوده ونفسه ( فَألـْهَمَها فُجورَها وَتَقْواها )[12] ، والقرآن الكريم إنّما يخاطب الناس على أنّهم عظماء مكرمون ، ويثير فيهم الدوافع النبيلة من الرحمة والإنسانيّة والكرم والشجاعة والفطرة السليمة وإيمانهم بالخالق فيقول تعالى : ( وَلَقَدْ كَرَّمْنا بَني آدَمَ )[13] ، وقوله سبحانه : ( وَأنْتُمُ الأعْلَوْنَ إنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنينَ )[14] ، فمن قدّر عواطف الناس وخاطبهم بكلمات الأدب والعفّة والعظمة فإنّهم يستجيبون لنداءاته برغبة ورحابة صدر ، يقول الأمير (عليه السلام) : « قلوب الناس وحشية فمن تألفها أقبلت عليه » ، ويقول الله سبحانه : ( لا إكْراهَ في الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الغَيِّ )[15] ، فالرفق واللين والحنان والشفقة والعطف والاحترام تكسب لك الأصدقاء ، وتكون ناجحاً في عالم الصداقة : قال الله تعالى : ( قولوا لِلـْنَّاسِ حُسْناً )[16] ، ويقول عزّ وجلّ مخاطباً نبيّه الأكرم : ( وَلَوْ كُنْتَ فَظَّاً غَليظَ القَلـْبِ لانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ )[17] . فلا بدّ من العطاء قبل الأخذ فإنّه كما قال الأمير (عليه السلام) : « من منع عن الناس يده منع عنهم يداً واحدة ومنعت عنه أيادي كثيرة » ، وعلينا بالرفق والمسامحة فإنّ رسول الله يقول : « من حرم الرفق حرم الخير كلّه » ، و « من استعمل الرفق لان له الشديد » ، « الرفق مفتاح النجاح » ، و « إن شئت أن تكرم فلِن ، وإن شئت أن تهان فاخشن » ، « الرفق عنوان النبل » ، « ارفق توفّق » ، « أكبر البرّ الرفق » ، « الرفق بالأسباع من كرم الطباع » ، « الرفق تيسير للصعاب » ، و « إذا عاقبت فارفق » ، « من لانت كلمته وجبت محبّته » ، وقال رسول الله : « أوَ اُخبركم من تحرم النار عليه غداً ؟ تحرم على كلّ ليّن » ، و « من اُعطي الخلق والرفق فقد اُعطي الخيرة والراحة ، وحسن حاله في دنياه وآخرته ، ومن حرم خلق الرفق كان ذلك سبيلا إلى كلّ شيء ، وبليّة إلاّ من عصمه الله تعالى » ، ويقول أمير المؤمنين (عليه السلام) : « المؤمنون هيّنون ليّنون » ، ولكن « كن ليّناً من غير ضعف ، وشديداً من غير عنف ».

ثمّ علينا في عالم الصداقة أن نقدّر وجهة نظر الآخرين ، وإذا دخلنا معهم في نقاش لا يكون المقصود الغلبة والتفوّق والانتصار عليه ، بل الهدف تحرّي الحقائق ، ومعرفة الواقع ، والتمسّك بالحقّ ، فنحاول في إثبات الحقيقة أن لا يتّخذ الطرف المقابل موقفاً مضادّاً منذ البداية ، فإنّ كلمة ( لا ) عقبة كأداء يصعب التغلّب عليها ، فإنّ كلمة ( لا ) إنّما هي مكوّنة من حرفين لا أكثر ، ولكن إنّما يكون خلفها كيان إنساني بأسره باتّجاه الرفض ، فلا بدّ أن نقتل الاختلاف في كونه الابتدائي ونطفته الاُولى ، يقول أمير المؤمنين (عليه السلام) : « مع الخلاف والاختلاف لا يكون ائتلاف » ، « الخلاف يهذّب الأبرار » ، وفي آخر : « الاُمور المنظّمة يفسدها الخلاف » ، ويقول الإمام الجواد (عليه السلام) : « من علامة المحبّة كثرة الموافقة وقلّة المخالفة » ، ويقول الإمام الحسن (عليه السلام) : « الشرف موافقة الإخوان وحفظ الجيران ، حسب المرء من صداقته كثرة موافقته وقلّة مخالفته » ، وعلينا أن نأخذ في ما كان الاختلاف ما هو القدر المشترك ونركّز عليه ، حتّى يتغلّب على نقطة الاختلاف والشقاق ، فإنّ كلّ ما فيه عنوان الاثنينية والكثرة والاختلاف ، إنّما يتكوّن ممّـا به الاشتراك وما به الامتياز ، فإذا أخذنا ما به الاشتراك وتغلّبنا على ما به الامتياز ، فإنّه يلزمه الوحدة والاتّحاد والموافقة وهذا من سبيل الوحدة . وأنّ فهم وجهة نظر الطرف الآخر يساعد الإنسان على النجاح في معاملة الآخرين ، ومن الجهل معارضة الآخرين قبل دركهم وفهمهم ، يقول الإمام الصادق (عليه السلام) : « من أخلاق الجاهل : الإجابة قبل أن يسمع ، والمعارضة قبل أن يفهم ، والحكم بما لا يعلم » ، وما أروع ما لو قيل للصديق : قد اُخالفك في الرأي ، ولكنّي مستعدّ للقتال دفاعاً عن وجهة نظرك الصائب ، ومعاشر الأنبياء ـ كما ورد في الخبر ـ أمرهم الله أن يكلّموا الناس على قدر عقولهم ، ويقول رسول الله : « رأس العقل بعد الدين : التودّد إلى الناس والاستماع الخيّر إلى كلّ أحد برّ أو فاجر » . وقال الله تعالى ( وَقولوا لِلـْنَّاسِ حُسْناً )[18] ، وعلينا أن لا نجرح صديقنا أمام الآخرين ، بل لو كنّا في مقام الوعظ والإرشاد والنصيحة ، فينبغي أن نخلو به ونسرّه بذلك ، قال أمير المؤمنين علي (عليه السلام) : « النصح بين الملأ تقريع » ، وقال (عليه السلام) : « من وعظ أخاه سرّاً فقد زانه ، ومن وعظه علانية فقد شانه » ، وفي آخر : « تلويح زلّة العاقل له أمضى عقاب » ، وفي آخر : « العبد يقرع بالعصى ، والحرّ تكفيه الإشارة » ، و « عقوبة العقلاء التلويح لا التصريح » ، « من اكتفى بالتلويح استغنى عن التقريع » ، ويقول الإمام الرضا (عليه السلام) : « إذا لوّحت فقد أوجعته عتاباً ».

فلا تقرع صديقك أمام الآخرين ، وإذا أردت أن تذكّره في السرّ فلوّح له واكتفي بالإشارة ، إلاّ إذا كان الأمر يقتضي التصريح ، ولولاه ما نفعت النصيحة والموعظة والإرشاد ، فحينئذ لا بأس به ، إلاّ أنّه مهما أمكن عليك أن تراعي حسن القول ولطائف الكلام ، فإنّه أبلغ في التأثير ، وإذا أردت منه شيئاً حتّى مع اُسرتك وأولادك ، فحاول أن تطلب ذلك في صورة التمنيات ، من دون إصدار الأوامر ، حتّى لو أردت الماء من ولدك ، فما يمنعك أن تقول له : لطفاً تفضّل عليَّ يا ولدي بالماء ، أو أرجوك أو ما شابه ذلك ، كما أدّبنا القرآن الكريم بذلك ، فبدلا أن يصدر الأوامر ، يذكر صفات المتّقين وما لهم من النعيم الخالد « فالتمنيات تدفع الآخرين إلى الاستجابة لها في إطار ( العطاء ) بينما الأوامر تدفعهم إلى تنفيذها بمقدار ما يقدر العذر ، وفرق كبير بين العطاء وبين التنفيذ ».

ثمّ حاول أن لا تُرق ماء وجه الصديق بل كلّ واحد من الناس ، فإنّ كرامة الإنسان ملك الله ، لا يحقّ لأحد أن يتنازل عنها بإراقة ماء وجهه ، يقول الحديث الشريف : « إنّ الله أوكل إلى عبده المؤمن كلّ شيء ولم يوكل إليه أن يذلّ نفسه » ، فلا يجوز لنا أن نجرح مشاعر الآخرين ونؤذيهم بكلمات جارحة.

جراحات السنان لها التيام *** ولا يلتام ما جرح اللسان

فلا تفرط في الملامة ، فإنّ أمير المؤمنين علي (عليه السلام) يقول : « الإفراط في الملامة يشبّ نيران اللجاج » ، وفي آخر : « إيّاك أن تكرّر العتب فإنّ ذلك يغري بالذنب ويهوّن العتب ».

وعندما دخلت سفانة ابنة حاتم الطائي على النبيّ محمد بعد أسرها ، ففكّها من الأسر وقومها ، كرامة لها ، ثمّ أمر النبيّ بحمر النعم ( الإبل والبقر ) فأعطى لها حقّها حتّى سدّ ما بين جبلين ، فقالت : يا محمد ، هذا عطاء من لا يخاف الفقر ! فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله) : « هكذا أدّبني ربّي فأحسن تأديبي » ، ثمّ قال (صلى الله عليه وآله) قولته المشهورة : « ارحموا ثلاثة ، وحقّ أن يرحموا : عزيزاً ذلّ من بعد عزّه ، وعالماً ضاع بين جهّال ، وغنيّاً افتقر من بعد غناه ».

ثمّ علينا أن نذكر حسنات الأصدقاء والناس ، ونشجّعهم على أعمال البرّ والخيرات ، يقول الأمير (عليه السلام) : « لكلّ مسلم على من أثنى عليه مثوبة من جزاء وعارفة من عطاء » ، ويقول في عهده لمالك الأشتر : « ولا يكوننّ المحسن والمسيء عندك بمنزلة سواء ، فإنّ في ذلك تزهيداً لأهل الإحسان في الإحسان ، وتدريباً لأهل الإساءة في الإساءة ، وألزم كلا منهم ما ألزم نفسه » ، فاُسلوب التشجيع والتكريم والتعظيم من أنجح الأساليب في إصلاح المجتمع والصديق والاُسرة ، وكان النبيّ الأكرم إذا رأى خطأ من شخص لم يقرعه مباشرة ، بل كان يصعد المنبر ويقول : « ما بال أقوام ... » ثمّ يذكر الخطأ على نحو كلّي وعامّ.

ثمّ أعط للناس ثقتك بأنّهم قادرون على الإصلاح ، فلا تبخل في كلامك بزرع الثقة في نفوسهم ، فإنّ إعطاء الثقة للطرف الآخر ، لا سيّما الصديق والتظاهر بقدرته على تحقيق أمر ما ، سيدفعه إلى محاولة الاحتفاظ بهذه الثقة ، وإلى عدم تخييب ظنّك فيه ، فإذا أردت أن تجعل من إنسان خطيباً ، فأخبره بأنّ له موهبة عظيمة في الخطابة ، فهذا ما سيدفعه إلى التمرين والتدريب حتّى يجيدها كما هو المطلوب.

وعلينا أن نتظاهر في بداية الأمر بالفضائل ، يقول أمير المؤمنين (عليه السلام) : « إن لم تكن حليماً فتحلّم ، فإنّه قلّ من تشبّه بقوم ، إلاّ أوشك أن يكون منهم » ، « خير الحلم التحلّم » ، « من لم يتحلّم لم يحلم » ، « من تحلّم حلم » ، « إن لم تكن حليماً فتحلّم » ، وهكذا في جميع مكارم الأخلاق والصفات الحميدة ، فمن تزهّد يزهد ، ومن تعلّم يتعلّم ، ومن تكرّم يكن كريماً ، والحكمة تقول : « تظاهر بفضيلة إن لم تكن فيك » ، وكذلك مع الآخرين ، فأعطهم عنواناً حسناً ، يقومون على الاحتفاظ به وتشييده ، ويبذلون كلّ ما في جهدهم ، حتّى لا تخيب الظنون بهم.

ثمّ اعطِ للطرف الآخر مسؤولية ، فإنّ الرئاسة تصنع الرئيس ، ويوجب ذلك أن يترك ما لا يليق بالرئيس ، حتّى في عالم الأطفال تشاهد ذلك بكلّ وضوح ، وهذا يعني أنّه من غرائز وفطرة الإنسان ذلك.

فهذه نصائح عامة ، وقواعد مهمّة ، في إصلاح الصديق والمجتمع ، وسوقهم نحو السعادة والعيش الرغيد والحياة الطيّبة ، والله المعين والموفّق.


[1]الحجرات : 12.

[2]المائدة : 9.

[3]الحجرات : 6.

[4]المائدة : 54.

[5]النحل : 23.

[6]الأعراف : 96.

[7]الطلاق : 3.

[8]آل عمران : 133.

[9]البقرة : 213.

[10]الحشر : 9.

[11]الإنسان : 8 .

[12]الشمس : 11.

[13]الإسراء : 70.

[14]آل عمران : 139.

[15]البقرة : 256.

[16]البقرة : 83.

[17]آل عمران : 159.

[18]البقرة : 83 .

الفصل الخامس