عود على بدء في بيان الأدلّة

 

وأما عمدة ما يستدل به على مذهب الامامية في مسألة البداء الصحيح والمعقول فأُمور ثلاثة :

الأول : الآيات الدالة على ذلک كقوله تعالى : (يَمْحُوا اللهُ ما يَشاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتابِ )[1] ، وكقوله تعالى : (يَسْئَلُهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالاَْرْضِ كُلَّ يَوْمٍ هُوَ

فيü شَأْنٍ )[2]  وكقوله تعالى : (إِنَّ اللهَ لا يُغَيِّرُ ما بِقَوْمٍ حَتّى يُغَيِّرُوا ما بِأَنْفُسِهِمْ )[3] .

 

 

وجه الاستدلال : لقد إتضح ممّا ذكر، بأن لله سبحانه وتعالى اللوح المحفوظ وهو أُمّ الكتاب ، يكتب فيه من القضاء والقدر المحتم ، وفيه مكتوب أيضاً إنّ لله لوح المحو والاثبات ، فان الله يمحو ما يشاء ويثبت ، فيتبدل ويتغير الخلق لا عن جهل مسبق أو بسبب الجهل السابق ، بل يفعل ذلک لمصالح وحكم كتبت أيضاً في اللوح المحفوظ ، وكل هذه في علم الله سبحانه من دون أن يوجب التبدّل والتغيّر في علمه الأزلي والأبدي أي السرمدي .

الثاني : تأثير الأعمال في مصائر ومستقبل الانسان ، وهذه من الحقائق القرآنية المؤكدة ، إضافة إلى ما ورد في السنة النبوية ومنهاج الأئمّة الأطهار : من تأكيد متواتر عليها.

ومفاد تلک الأدلة السمعية من الكتاب الكريم والأحاديث الشريفة ، إنّ أعمال الانسان من الإيمان والشرک والطاعة والمعصية ، وبرّ الوالدين وعقوقهما، والانفاق والصدقة على الفقراء، والبخل والدعاء وصلة الأرحام وقطيعتها، إن ذلک مؤثرة في الرزق وسعته ، والبركة ودوامها، وطول العمل والسعادة وغيرها، فان هذه الامور قد ذكرها القرآن الكريم مراراً، كما ايّدتها السنة الشريفة تكراراً.

وقد لخّصها القرآن الكريم بقوله تعالى : (إِنَّ اللهَ لا يُغَيِّرُ ما بِقَوْمٍ حَتّى يُغَيِّرُوا ما بِأَنْفُسِهِمْ )[4] .

 

ومن ينكر البداء بهذا المعنى ، فانه سينجر إنكاره إلى إنكار هذه الحقيقة القرآنية الواضحة ، وربما يلزم إنكار آيات من القرآن الكريم ممّا يوجب الكفر والارتداد.

ومن آمن بهذه الحقيقة فقد آمن بالبداء، وهذا ما تقوله الامامية في البداء.

الثالث : المشابهة بين مسألة النسخ في الشرعيات ومسألة البداء في التكوينيات ، فان البداء المعقول كالنسخ في التشريع ، فالبداء نسخ تكويني ، والنسخ بداء تشريعي .

وكما ثبت عند المسلمين قاطبة مسألة النسخ في الشريعة المقدسة ، كما في مسألة تغيير القبلة من المسجد الأقصى إلى الكعبة المشرفة ، ولم يخالف في ذلک أحد، ولم يعتبره من التغيير في علم الله الأزلي ، ولا يستلزم ثبوت جهل سابق كذلک البداء في الأحكام الكونية من دون أن يلزم مخالفة علم الله أو جهل سابق .

ومن يشكل على البداء بهذا المعنى فانه يلزمه أن يشكل على النسخ ، فكلاهما يرتضعان من ثدي واحد.

وكل ما يذكر من الجواب في صحة النسخ والقول به ، يذكر في صحة البداء والقول به ، فلا فرق بين الأمرين : النسخ والبداء.

وفي الوقع من يشكل على البداء، فانه تكرار لاشكال اليهود على النسخ في التشريع ، فانهم قالوا يد الله مغلولة ، غلّت أيديهم ولهم عذاب أليم .

وما يقال في جواب اليهود من قبل علماء الاسلام ، واثباتهم النسخ في التشريع من دون لزوم خلل في الساحة الربوبيّة المقدسة ، فانه قابل للانطباق وللجواب عن البداء والنسخ في عالم التكوين والتدبير.

وكل من أنكر ذلک فاما جاهل قاصر، أو معاند مكابر، أو مفتر كاذب ، أو خصم غادر. وإلى الله تصير الأُمور وهو الحاكم ، ولا حول ولا قوة إلّا بالله العلي العظيم .