المحتوم والمؤجّل

إنّ لله سبحانه وتعالى في تدبير شؤون خلقه من فوق عرشه التدبيري حكمين في لوحين :

أحدهما: المحتوم : الذي كتبه بقلم قدرته في اللوح المحفوظ وفي اُمّ الكتاب وانّه لا يتغيّر، فيكون بحكم الثوابت ، كالأجل المحتوم الذي (إِذا جاءَ أَجَلُهُمْ فَلا يَسْتَأْخِرُونَ ساعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ )[1] .

والقلم واللوح كما في روايات أهل البيت  : إنّما هما من الملائكة ، فما يريده الله بخطابه التكويني (كن فيكون) أي إيجاده وظهور خلقه ، إنّما يلهمه القلم المجرّد النوري ، ليبرزه بنور في اللوح الذي هو جبهة ملک وهو مجرّد نوري آخر، فتعلم الملائكة المرسلات والمدبّرات أمراً ذلک المسطور النوري ، فتقوم بما ألهمها الله عزّوجل من تمشية الأُمور وتدبير الكائنات والمخلوقات المجرّدة والماديّة .

الثاني : المعلّق : الذي يكتب في لوح المحو والاثبات القابل للتغيير، كالآجال المعلّقة والأرزاق المقسومة ، فانّها وإن كتبت وربما قبل الميلاد وفي بطن الام ، وربما اُبرمت كالبلاء المبرم والقضاء المبرم ، إلّا انّه علّق تنفيذه على قضايا
إيجابيّة كالصدقة والدعاء وصلة الأرحام ، وترک الذنوب والتقوى وطلب الرزق ، وما شابه ذلک ، أو على اُمور سلبيّة كإرتكاب الذنوب وقطع الرّحم وغير ذلک .

توضيح ذلک : لقد ورد في الأحاديث الشريفة : إنّ الدعاء أو الصدقة أو صلة الرحم تدفع البلاء المبرم[2] ، والذي كتب في لوح المحو والاثبات ، فانّ الله قضى   

وقدّر أنّ فلانآ كتب عليه في طفولته أجلاً معلّقاً، أي ينفذ الأجل في تلک البرهة ، الّا انّه لو دعا أبواه أو تصدّقا عنه لسلامته ، فانّه لا ينفّذ ذلک الأجل ، فعُلّق على الدعاء والصدقة ، فان كان مثل الصدقة والدعاء، فلا تنفيذ في أجله ، وإلّا فانّه ينفذ الموت في حقّه ، فصدقة الوالد ودعائه تدفع بلاء الموت عن الولد.

وهكذا الأمر لمن كتب عليه الموت والأجل في أيّام شبابه أو كهولته أو عجزه حتّى يأتي دور الأجل المحتّم ، فانّه بدعائه أو صلة رحمه يدفع عن نفسه تلک الآجال المعلّقة ، ولمثل هذا ورد أنّ صلة الرحم يزيد في العمر ثلاثين سنة ، أي من كان مكتوب عليه في لوح المحو والاثبات ، انّه يغرق في سنّ العشرين مثلاً، إلّا أنّه علّق ذلک على صلة الرحم ، فلو وصل رحمه فانّه يزيد عمره إلى خمسين سنة ، لأنّ أجله المحتّم مثلاً إنّما هو في الخمسين ، هذا في القضايا الايجابيّة ، وكذلک الأمر في السلبيّات فان أجله المعلّق متوقّف على إرتكاب ذنب لو إرتكبه كالزنا، فانّه ينفذ فيه الأجل ، ولو تركه فانّه يتعدّى محطّة الموت بسلامة ، ويطوي قطار عمره باقي الطريق ويتمّ السير الطبيعي في الحياة .

والذي نعتقده ـ في مذهب أهل البيت  : ـ من القول بالبداء، فانّه ليس بمعنى عدم علم الله عزّوجلّ واثبات الجهل عليه ـ والعياذ بالله ـ بل بمعنى الابراز والظهور بما كان في اللوحين ، بعد تحقّق الأمر على أرض الواقع .

ثمّ من نتائج القول بالبداء المعقول والثابت هو القول باختيار الانسان وحريّته في الجملة ، أي من منطلق : «لا جبر ولا تفويض بل أمر بين الأمرين » وإنّ من عظمة الإنسان أن يستخلف ربّه في أسمائه الحسنى وصفاته العليا، والّتي منها القدرة والاختيار، وإنّ من عظمة إختيار الانسان إنّه بإذن من ربّه له أن يغيّر ما كتب في لوح المحو والإثبات ، يعني تصل قدرة الانسان إلى أن يغيّر ما كان مكتوباً فيما وراء الطبيعة ، وفي عالم المجرّدات والعوالم الملكوتية ، فانّه من العالم الملكي الطبيعي الناسوتي يؤثر في العالم الملكوتي المجرّدي ، وهذا من لطف الله سبحانه ومن كرامة الانسان عليه ، ومن سننه الّتي لن تجد لها تبديلاً ولا تحويلاً.

فالانسان قادر على أن يبدّل السّقم بالصحّة ، والفقر بالغنى والموت بالحياة ، والذلّ بالعزّ، والشرّ بالخير، والظلام بالنور، والباطل بالحق ، وهكذا في كلّ المتضادات الحاكمة على الكون وما فيه ، وكذلک العكس فيبدل الغنى بالفقر، والحياة بالموت ، وهكذا.

هذا وقد أبان الله بلطفه أيضاً أسباب الانقلاب والتبديل والتحويل في المتضادات ، ولله الحجّة البالغة ، وليكون الانسان على بصيرة من أمره ، فتدبّر.