كلام أهل بيت رسول الله (عليهم السلام) نورٌ يُضاء به درب السالكين والعارفين ، وأمرهم رشد ، ووصيّتهم التقوى ، وفعلهم الخير ، وعادتهم الإحسان ، وسجيّتهم الكرم ، وشأنهم الحقّ والصدق والرفق ، وقولهم حُكم وحتم ، ورأيهم علم وحلم وحزم ، فهم عدل القرآن الكريم لن يفترقا في كلّ شيء إلى يوم القيامة ، ففي بيوتهم نزل الكتاب ، وهم أدرى بما في البيت ، وبحقيقة الإنسان ، وما يصلحه وما يشينه ، ولم يتركوا شيئاً ، فما من صغيرة وكبيرة إلاّ في كتاب وإمام مبين.
وقد مرّ علينا بعض أحاديثهم الشريفة وأخبارهم المقدّسة ، حول أهمّ معالم الصداقة والأصدقاء ، وحقوقهم وحدودهم ، وضرورة الاُخوّة في حياة الإنسان ، وفي هذا القسم نتعرّض إلى كيفية كسب الأصدقاء ومودّتهم ، فإنّ كسب الأصدقاء فنّ لا يحسنه كلّ واحد ، فلا بدّ من استذواقه والتشوّق إليه أوّلا ، ثمّ التمرين المداوم عليه ، حتّى تكون ملكة في نفس الإنسان.
فأوّل ما يكسب الصديق هو الاحترام ، فلا يحقّ لشخص أن يحقّر الناس . فأمير المؤمنين علي (عليه السلام) يقول : « الناس : إمّا أخٌ لك في الدين أو نظير لك في الخلق » ، وفي الحديث الشريف : « لا تحقّروا المؤمنين فإنّ صغيرهم عند الله كبير » ، فاحترام الجميع هو الخطوة الاُولى لكسب الأصدقاء ، ثمّ لا تعظّم نفسك وتضخّم شخصيّتك أمامهم ، بل كما جاء في الحكمة : ( كن أحكم الناس إذا استطعت ، ولكن لا تقل للناس ذلك » ، ثمّ لا تبخس الناس أشيائهم ، قال الله تعالى : ( وَلا تَبْخَسوا النَّاسَ أشْياءَهُمْ وَلا تُفْسِدوا في الأرْضِ بَعْدَ إصْلاحِها ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنينَ )[1] ، فلا بدّ من تكريم الصديق وتقديره والتواضع له وإعطاء حقّه ، واحبب لأخيك ما تحبّه لنفسك ، واكره له ما تكره لنفسك ، فإنّ هذا أدنى مراحل الصداقة ، وإلاّ فإنّ الصديق الوفيّ يضحّي بنفسه وأهله وماله ، من أجل حفظ مودّة الصديق وحرمة صداقته ، و ( كما تدين تدان ) . وفي الحديث الشريف : « ضع يدك على رأس من شئت ، وأحبب له ما تحبّ لنفسك » ، وامدح محاسن صديقك ، وافتح لسان الثناء على ألطافه ، واشكر خدماته أمام الآخرين . يقول أمير المؤمنين علي (عليه السلام) في رسالته إلى مالك الأشتر لمّـا كان والياً على مصر : « وأخصّ أهل النجدة في أملهم إلى منتهى غاية آمالك من النصيحة بالبذل وحسن الثناء عليهم ، ولطيف التعهّد لهم رجلا رجلا ، وما اُبلي في كلّ مشهد ، فإنّ كثرة الذكر لحسن فعالهم تهزّ الشجاع وتحرّض الناكل » . ويقول الإمام الحسن (عليه السلام) في وصف الأخ : « وإن رأى منك حسنة عدّها » . ويقول الإمام السجّاد (عليه السلام) : « إيّاك أن تعجب من نفسك ، وإيّاك أن تتكلّم بما يسبق القلوب إنكاره ، إنّ عليك أن تجعل المسلمين بمنزلة أهل بيتك ، فتجعل كبيرهم بمنزلة والدك ، وتجعل صغيرهم بمنزلة ولدك ، وتجعل تربة بمنزلة أخيك ، فأيّ هؤلاء تظلم ؟ » . فلا أحد يظلم أباه وابنه وأخاه ولا من يحبّه.
ويقول الإمام الصادق (عليه السلام) : « لا يلقى المؤمن أحداً إلاّ قال : هو خيرٌ منّي وأتقى ، فإذا التقى الذي هو خيرٌ منه تواضع له ليلحق به ، وإذا لقي الذي هو شرّ منه وأدنى قال : لعلّ شرّ هذا ظاهر وخيره باطن ، فإذا فعل ذلك علا وساد أهل زمانه » . وفي الحديث الشريف : « من غشّ أخاه وحقّره وناوأه جعل الله النار مأواه » ، وفي آخر : « إنّ الذي يستخفّ بدينه هو ذلك الذي يحقّر إخوانه ».
وكان
النبيّ الأكرم يبسط رداءه لمن صاحبه ، وإذا صافحه أحد لا يسحب يده منه ،
إلاّ إذا سحب الآخر يده ، ولم يلتفت إلى من يكلّمه بوجهه قطّ ، بل بكلّ
مقاديم بدنه ، وإذا أشار إلى شخص أشار بكلّ كفّه لا بإصبعه ، وكان يؤثر
الداخل عليه بالوسادة التي تحته ، وكان يقسّم لحظاته ونظراته بين الناس
بالسويّة ، وكان لا يدع أحد يمشي معه إذا كان راكباً حتّى يحمله
معه ، وإذا لقي أحد من أصحابه قام معه ، ولا ينصرف عنه حتّى ينصرف الرجل
منه ، وقد اُتي إليه بشيء من قبل أصحاب الصفة ـ وهم مجموعة كانوا
فقراء لا يملكون شيئاً يبيتون في المسجد ، وكان إذا حصل رسول الله
على شيء قسمه بينهم بالتساوي ـ فقسمه عليهم ولم يسعهم
جميعاً فخصّ اُناساً منهم ، فخاف أن يكون دخل قلوب الآخرين شيء فخرج إليهم
قائلا : « المعذرة إلى الله عزّ وجلّ وإليكم يا أهل الصفّة ،
إنّا اُوتينا بشيء فأردنا أن نقسمه بينكم فلم يسعكم فأعطيناه اُناساً منكم خشينا
جزعهم وهلعهم » ، وبهذا بيّن لهم أنّ عدم عطائهم لم يكن بسبب نقص فيهم
بل لأنّهم لا يجزعون ، وهكذا كان الرسول الأكرم يتعامل مع الناس ،
ولنا في رسول الله اُسوة حسنة ، فنحترم الآخرين لا سيّما الأصدقاء ،
ونقدّر مشاعرهم وأحاسيسهم ، نمدح فضائلهم ومحاسنهم ، ونشكر
خدماتهم ، ففي الحديث الشريف : « من لم يشكر المخلوق لم يشكر
الخالق » ، وقال رسول الله (صلى الله عليه وآله) :
« يؤتى بعبد يوم القيامة فيوقف بين يدي الله عزّ وجلّ فيؤمر به
إلى النار ، فيقول : أي ربِّ ، أمرت بي إلى النار وقد قرأت
القرآن ؟
فيقول الله عزّ وجلّ : أي عبدي ، إنّي أنعمت عليك ولم تشكر
نعمتي ، فيقول العبد : أي ربّ ، أنعمت عليّ بكذا
فشكرتك بكذا وأنعمت عليَّ بكذا فشكرتك بكذا ، فلا يزال يحصي النعم ويعدّد
الشكر ، فيقول الله تعالى : صدقت عبدي ، إلاّ أ نّك لم
تشكر من اجريت لك نعمتي على يديه ، وإنّي آليت على نفسي أن لا
أقبل شكر عبد لنعمة أنعمتها عليه حتّى يشكر من ساقها من خلقي إليه » .
ويقول أمير المؤمنين لمالك الأشتر لمّـا ولاّه مصر : « ولا يكوننّ
المحسن والمسيء عندك بمنزلة سواء » ، فمن لم يشكر الآخرين فإنّه يدلّ
على جهله وأنانيّته وحبّه لذاته ، وكلّ واحد يحبّ أن يذكر ويشار إليه ،
فإنّ ذلك من غرائز الإنسان ، فلماذا لا ننشر الفضيلة ونذكرها
مادحين أصحابها والمتحلّين بها ؟ ! ومن يقدّر جهود الآخرين
يملك قلوبهم ، ويقول رسول الله : « خير إخوانك من ذكر إحسانك
إليك » ، إلاّ أنّه بلا إفراط ولا تفريط ، بل كلّ على حسب ما
عنده ، وبمقدار ما يستحقّ ، فإنّ أمير المؤمنين علي (عليه
السلام)
يقول : « الثناء بأكثر من الاستحقاق ملق ، والتقصير عن
الاستحقاق عيّ وحسد » ، فالمطلوب هو التقدير ، لا التملّق وحلاوة
اللسان بنفاق ، ومن قصّر ، فإنّ ذلك إمّا من عجزه وعيّه أو من
حسده ، وعلينا أن نشجّع الآخرين على العمل بالتشويق والمدح المعقول والثناء
الممدوح ، فكثير من العظماء والعباقرة إنّما تسلّقوا سلّم التكامل والشهرة من
مدح مادح ، وثناء مثنّي ، في بداية حياتهم الاجتماعية . فالتشجيع
المناسب ينمّي المواهب ، فالاحترام وتقدير عواطف الأصدقاء من الكلمة
الطيّبة ، وقال الله سبحانه : ( مَثَلُ
كَلِمَة طَيِّبَة كَشَجَرَة طَيِّبَة أصْلُها ثابِتٌ وَفَرْعُها في السَّماءِ
تُؤْتي اُكُلَها كُلّ حين بِإذْنِ رَبِّها )[2] ،
وأمير المؤمنين علي (عليه السلام) يمدح أصحابه
قائلا : « أنتم الأنصار على الحقّ ، والإخوان في
الدين ،
والجنن
( الوقاية ) يوم البأس ، والبطانة دون الناس ، بكم أضرب
المدبر ، وأرجو طاعة المقبل ، فأعينوني بمناصحة خالية من الغشّ ،
سليمة من الريب ، فوالله إنّي لأولى الناس بالناس » ، فعلينا أن
نخلص في مدح الإخوان ، وإلاّ فقد قال الإمام العسكري (عليه
السلام) :
« بئس العبد عبد يكون ذا وجهين وذا لسانين ، يُطري أخاه شاهداً ويأكله
غائباً ، إذا اُعطي حسده ، وإذا ابتلي خذله ».
ثمّ علينا أن نتعلّم فنّ الإصغاء لكلام الآخرين ، فإنّه من العوامل المهمّة لكسب الأصدقاء ، فكثير منّا يملك فنّ الخطابة ، ويفقد فنّ الإصغاء والاستماع للآخرين ، فقد قال رسول الله (صلى الله عليه وآله) : « من تحدّث في كلام أخيه فكأ نّما شرخ وجهه » ، وفي آخر : « من المروءة أن ينصت الأخ لأخيه إذا حدّثه ، وحسن المماشاة أن يقف الأخ لأخيه إذا انقطع شسع نعله » ، وبمثل هذه الأخلاق الطيّبة تشتدّ أواصر الصداقة ، وقد مدح الله اُناساً ( الَّذينَ يَسْتَمِعونَ القَوْلَ فَيَتَّبِعونَ أحْسَنَهُ )[3] . وأمرنا أن نستمع للقرآن : ( وَإذا قُريءَ القُرْآنُ فَاسْتَمِعوا لَهُ وَأنْصِتوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمونَ )[4] ، فكثير من اُولئك الناجحين في حياتهم الاجتماعية كان بسبب حسن الإصغاء لحديث الآخرين ، وفي بعض المواقف أفضل سلاح لمن يشتمك أن تنصت إليه ، ثمّ تغضّ عنه ، كما قال الله سبحانه : ( وَإذا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِراماً ) ، ويقول الشاعر :
لو كلّ كلب عوى ألقمته حجراً *** لأصبح الصخر مثقالا بدينارِ
وأكثر الناس يذهبون إلى الطبيب لا ليفحصهم ، وإنّما ليستمع إليهم ، ومن يتكلّم عن نفسه دوماً فإنّه يصغر في أعين الناس ، ففنّ الإصغاء هو نصف المحادثة والحوار ، ويقول الإمام الصادق (عليه السلام) : « ممّـا يستدلّ به على إصابة الرأي حسن اللقاء وحسن الاستماع » ، وقال (عليه السلام) : « من أخلاق الجاهل الإجابة قبل أن يسمع ، والمعارضة قبل أن يفهم ، والحكم بما لا يعلم » ، « وإذا كان الكلام من فضّة ، فإنّ السكوت من ذهب » . ويقول الإمام الكاظم (عليه السلام) : « لكلّ شيء دليل ، ودليل العاقل التفكّر ، ودليل التفكّر الصمت » ، ثمّ الإصغاء مهارة عقلية يمكن تنميتها بالتدريب العملي ، وإذا كنّا من اُولئك الذين لا يحسنون الإصغاء فسرعان ما ينفذ صبرنا ، ومن ثمّ تضيع الفكرة والموضوع المستهدف من الكلام والخطاب ، فنخسر الصفقة في عالم الصداقة والاُلفة والعمل.
ومن أهمّ العوامل الناجحة في كسب الأصدقاء : ترك مجادلتهم في النقاش ، فإنّ الجدال جذوره من حبّ الذات والأنانيّة الممقوتة والشيطانية ، وعلينا أن يكون النقاش في جوّ هادئ معطّر بالمحبّة والصفاء والوصول إلى الصواب والحقّ ، لا فرض الرأي وإن كان مخطئ على الآخرين ، فإن الله أدّب نبيّه أن يجادل الكفّار ولكن ( وَجادِلـْهُمْ بِالَّتي هِيَ أحْسَنُ فَإذا الَّذي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَداوَةٌ كَأ نَّهُ وَليٌّ حَميمٌ )[5] ، واحسم الجدال بتركه ففي الحديث النبويّ الشريف : « لا يستكمل عبد حقيقة الإيمان حتّى يترك المراء وإن كان محقّاً » ، وفي آخر : « من ترك المراء وهو محقّ يبني له بيت في أعلى الجنّة ، ومن ترك المراء وهو مبطل يبني له بيت في ربض الجنّة » ، ويقول الإمام الحسن (عليه السلام) : « لا تمارينّ حليماً ولا سفيهاً ، فإنّ الحليم يقنيك ، والسفيه يؤذيك » ، فالحليم يترك من كان مجادلا ، والسفيه يحاول أن ينتقم . وفي الحديث الشريف : « إيّاكم والخصومة فإنّها تشغل القلب وتورث النفاق وتكسب الضغائن » . وقال الأمير (عليه السلام) : « إيّاكم والمراء والخصومة ، فإنّهما يمرضان القلوب على الإخوان وينبت عليهما النفاق » ، « إيّاك والمراء ، فإنّك تغري بنفسك السفهاء » ، « لا تماري فيذهب بهاؤك » . وقال الإمام الصادق (عليه السلام) : « إن أردت أن يصفو لك ودّ أخيك فلا تمازحنّه ولا تمارينّه ولا تباهينّه ولا تشادّنّه » . ويقول الإمام الهادي (عليه السلام) : « المراء يفسد الصداقة القديمة ويحلّل العقدة الوثيقة ، وأقلّ ما فيه أن تكون فيه المغالبة ، والمغالبة اُسّ أسباب القطيعة » . والجدال السليم ما كان المقصود منه الحقّ ، وبلا إهانة الطرف الآخر ، ولا بذائة في الحوار ، وإثبات ما نؤمن بصحّته من دون تمزيق آراء الآخرين ، فإنّ من أثبت أنّ لبنه حلو ، فإنّه يغنيه عن أن يثبت أن لبن الآخرين حامض ، فإنّ من يذوق لبنه ينجذب إليه لا محالة بالفطرة والطبيعة.
ومن أجل كسب الأصدقاء علينا أن نترك اللوم والعتاب فيما يمكن الإغماض عنه ، فإنّ من كان عسلا في أخلاقه يستذوقه الجميع ، وأمّا من كان حنظلا ومرّاً في سلوكيّاته وحالاته ، فمن الصعب أن يلتفّ حوله الناس ، بل نكون مع الصديق كالمرآة[6] ، فإنّها كما تحكي حسن المشاهد فيها كذلك تذكر عيون المتطلّع إليها إلاّ أنّها لا تصغر المعيب حتّى لا يبالي بإزالته ويصاب بعقدة اللامبالاة ، ولا تكبّره وتضخّمه حتّى ييأس من إصلاحه ويصاب بعقدة الحقارة ، بل بنفس الحجم والمقدار ، يقول أمير المؤمنين علي (عليه السلام) : « عاتب أخاك بالإحسان إليه واربط شرّه بالإنعام عليه » ، وفي آخر : « احتمل أخاك على ما فيه ، ولا تكثر العتاب فإنّه يورث الضغينة » ، و « من عاتب أخاه على كلّ ذنب كثر عدوّه » ، ويقول الإمام الباقر (عليه السلام) : « العتاب مفتاح التقالي » أي التباغض والتشاحن ، بل علينا أن نقبل عذر الصديق ، علينا أن نلتمس له عذراً إن لم يكن له ما يبرّر خطأه . ففي الحديث الشريف : « اقبل عذر أخيك وإن لم يكن له عذر فالتمس له عذراً » ، وفي آخر : « لا يعتذر إليك أحد إلاّ قبلت عذره وإن علمت أنّه كاذب » ، فما أروع هذا المنطق الذي يشعّ منه المحبّة والصفاء والاُخوّة والتنازل من أجل خلق الأجواء المريحة التي يحسّ الإنسان فيها بالسعادة ، ويقول الشاعر بشأن اللوم والعتاب :
إنّي ليهجرني الصديق تجنّباً *** فأراه أنّ لهجره أسبابا
وأراه إن عاتبته أغريته *** فأرى له ترك العتاب عتابا
وإذا ابتليت بجاهل متحلّم *** يجد المحال في الاُمور صوابا
أوليته منّي السكوت وربما *** كان السكوت على الجواب جوابا
فالصمت
وترك العتاب أفضل طريقة للعتاب والردّ على الكلام المزيّف
في حقّك ، فكن في حياتك كالزهرة والوردة ، يعطّ منها الطيب
والروح ويشتاق إليها الجميع ، وعلينا أن نعالج أخطاء الآخرين كما يعالج
الطبيب مريضه بكلّ شفقة وحنان ، وعلينا أن نبدأ بأنفسنا بإصلاح العيوب
والأخطاء التي تصدر منّا ، ففي الحديث الشريف :
« كفى بالمرء عيباً أن يبصر من الناس ما يعمى عن نفسه ،
وأن يعيّر الناس بما لا يستطيع تركه ، وأن يؤذي جليسه بما لا يعنيه » ،
« طوبى لمن شغله عيبه عن عيوب الناس » ، « من نظر
عيب نفسه انشغل عن عيب غيره » . ويقول الإمام السجّاد (عليه
السلام) :
« وإنّك لعلى يقين من ذنبك وفي شكّ من ذنوب غيرك » . ويقول أمير
المؤمنين علي (عليه
السلام) :
« معرفة المرء بعيوبه أنفع المعارف » . وفي الحديث
الشريف : « استقبح من نفسك ما تستقبحه من غيرك » . وقال
الأمير (عليه السلام) : « إذا تمّت همّتك
لإخلاص الناس فابدأ بنفسك ، فإنّ تعاطيك صلاح غيرك وأنت فاسد أكبر
العيوب » ، وحذاري أن نكون مصداقاً للآية الكريمة : ( وَإذا قيلَ لَهُ
اتَّقِ اللهَ أخَذَتْهُ العِزَّةُ بِالإثْمِ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ
المَصيرِ )[7] .
وإذا كنت خاطئاً في شيء فلا بدّ من الاعتراف به ، فإنّ الاعتراف بالخطأ
فضيلة ، وعلينا أن نكون في حياتنا إيجابيين ، ننظر إلى ما
حولنا من خلال رؤية سليمة ومنصفة ، ونقيم العلاقات الاجتماعية مع الناس
والأصدقاء على الطيب وحسن الظنّ ، يقول الأمير (عليه
السلام) :
« أعقل الناس من كان بعيبه بصيراً وعن عيوب غيره ضريراً » ، وفي
آخر : « تتبّع العورات من أعظم السوءات » . ويقول
الرسول الأكرم : « من تتبّع عثرات أخيه تتبّع الله
عثراته » . وقال الإمام الباقر (عليه السلام) :
« أقرب ما يكون العبد إلى الكفر أن يواخي أخاه فيفحص عليه عثراته
وزلاّته ليعنّفه بها يوماً ما » ، بل علينا أن نحسن الظنّ مع
إخوتنا وأصدقائنا ، ففي الحديث الشريف : « إحمل فعل أخيك
المؤمن على سبعين محملا من الصحّة » ، وفي آخر : « كذّب
سمعك وبصرك سبعين مرّة » ، و « كذّب سمعك وبصرك وصدّق
أخاك » ، أو تدري من يحبّ أن ينشر عيوب الآخرين ؟ ففي الحديث
الشريف : « ذوو العيوب يحبّون إشاعة معايب الناس ليشعّ القذر في
معايبهم » . ويقول الأمير (عليه السلام) :
« من تتبّع خفيات العيوب حرمه الله مودّات القلوب » ، وفي الحديث
الشريف : « ليكن أبغض الناس إليك وأبعدهم أطلبهم لمعايب
الناس » ، وكان موسى بن عمران نبيّ الله يشتكي إلى الله تعالى معاصي
العباد ، فأوحى الله إليه ذات مرّة : ( أن يا موسى حبّب
إليَّ عبادي
وحبّبني
إليهم » . وعلينا أن لا نجرح مشاعر وكبرياء الأصدقاء إذا ارتكبوا
الخطأ ، بل بكلّ حكمة وقول سديد ، نذكره للإصلاح ، فإذا رأينا
الخطأ منه فمن الأفضل أن يقال له : وهناك رأي آخر ،
وربما أكون مخطئاً فيه ، فحبذا أن نصحّح الإخطاء ونختبر الحقائق ، وبهذا
تكسب ودّ صديقك ، وسرعان ما ينصاع إلى الحقّ ، ويذعن إلى
الحقيقة من دون أن تأخذه العزّة بالإثم ، والقرآن الكريم يعلّمنا إلى مثل هذا
الحوار المنصف ويؤدّب رسوله الأكرم في حديثه مع الكفّار ـ فكيف مع
الأصدقاء ـ في قوله تعالى : ( وَإنَّا
وَإيَّاكُمْ لَعَلى هُدىً أوْ في ضَلال مُبين )[8] .
ويقول الأمير (عليه السلام) :
« يا عبد الله ، لا تعجل في عيب أحد بذنب فلعلّه مغفور له ،
ولا تأمن على نفسك صغيرة معصية فلعلّك معذّب عليه » ،
« ليكفف من علم منكم عيب غيره لما يعلم من عيب نفسه ، وليكن الشكر شاغلا
له على معافاته عمّـا ابتلي به » . وعلينا أن نشكر ونحترم من يهدي إلينا
عيوبنا ، ففي الحديث الشريف : « أحبّ الإخوان
إليّ من أهدى إليَّ عيوبي » ، وفي آخر : « ليكن أحبّ
الناس إليك من هداك إلى مراشدك وكشف لك عن معايبك » ، وفي
آخر : « من كاشف في عيبك حفظك في غيبك » ،
« ومن داهنك في عيبك عابك في غيبك » . ويقول رسول الله (صلى الله
عليه وآله) :
« وإنّما سُمّي الصديق صديقاً لأنّه يصدقك في نفسك ومعايبك ،
فمن فعل ذلك فاستلم إليه ، وإنّما سُمّي العدوّ عدوّاً
لأنّه يعود عليك ويتجاوزك ، فمن داهنك في معايبك فهو العدوّ
العادي عليك » ، وقال الله تعالى : ( وَقُلْ
لِعِبادي يَقولوا الَّتي هِيَ أحْسَنُ إنَّ الشَّيطانَ يَنْزَغُ بَيْنَهُمْ إنَّ
الشَّيطانَ كانَ لِلإنْسانِ عَدُوَّاً مُبيناً )[9].
وهناك ما
يفسد الصداقة ، فعلى من أراد أن يكسب الأصدقاء ، وتبقى العلاقة
الحميمة
معهم ، أن يتجنّب ما تفسد عليه روح الاُخوّة وتهدّم أركان الصداقة ،
قال الإمام الكاظم (عليه السلام) :
« لا تذهب الحشمة بينك وبين أخيك ، وابقِ منها ، فإنّ ذهابها ذهاب
الحياء » . وقال الأمير (عليه السلام) :
« إذا احتشم الرجل أخاه فقد فارقه » . وقال الإمام الصادق (عليه
السلام) :
« إن أردت أن يصفو لك ودّ أخيك فلا تمازحنّه ولا تمارينّه ولا
تباهينّه ولا تشارّنّه » . وقال أمير المؤمنين علي (عليه
السلام) :
« من أطاع الواشي ضيّع الصديق » ، وفي آخر : « حسد
الصديق من سقم المودّة » . ومن وصاياه (عليه
السلام)
لابنه محمد بن الحنفيّة : « إيّاك والعجب وسوء الخلق وقلّة
الصبر ، فإنّه لا تستقيم لك على هذه الخصال الثلاث صاحب ،
ولا يزال لك عليها من الناس مجانب » ، و « لا يغلبنّ
عليك سوء الظنّ فإنّه لا يدع بينك وبين صديق صفحاً » . وقال الإمام
الصادق (عليه
السلام) :
« الاستقصاء فرقة ، الانتقاد عداوة » ، وفي آخر :
« لا يطمعنّ الخبّ في كثرة الصديق » . وقال الأمير (عليه
السلام) :
« من استقصى على صديقه انقطعت مودّته » ، وفي آخر :
« من ناقش الإخوان قلّ صديقه » . وقال الإمام العسكري (عليه
السلام) :
« من كان الورع سجيّته ، والكرم طبيعته ، والحلم خلّته ، كثر
صديقه ، والثناء عليه ، وانتصر من أعدائه بحسن الثناء فيه » .
ومن الواضح تعرف الأشياء بأضدادها ، فمن لم يكن ورعاًولا كريماً ولا حليماً
فإنّه يقلّ أصدقائه ، وقال الأمير (عليه السلام) :
« من لانت عريكته وجبت محبّته ، من لان عوده كثفت أغصانه ».
وأخيراً وليس بآخر : جاء في مواعظ[10] الإمام السجّاد علي بن الحسين (عليه السلام)للزهري ، وقد رآه حزيناً ممّـا رأى من جهة الحسّاد ومن أحسن إليه : « أما عليك أن تجعل المسلمين منك بمنزلة أهل بيتك ، فتجعل كبيرهم بمنزلة والدك ، وتجعل صغيرهم بمنزلة ولدك ، وتجعل تربك بمنزلة أخيك ، فأيّ هؤلاء تحبّ أن تظلم ؟ ! وإن عرض لك إبليس لعنه الله ، أنّ لك فضلا على أحد من أهل القبلة ، فانظر إن كان أكبر منك فقل قد سبقني بالإيمان والعمل الصالح فهو خيرٌ منّي ، وإن كان أصغر منك فقل قد سبقته بالمعاصي والذنوب فهو خير منّي ، وإن كان تربك فقل : أنا على يقين من ذنبي وفي شكّ من أمره ، فما أدع يقيني لشكّي ، وإن رأيت المسلمين يعظمّونك ويوقّرونك ويبجّلونك فقل : هذا فضل أخذوا به ، وإن رأيت منهم جفاء وانقباضاً عنك ، فقل هذا لذنب أحدثته ـ ومعنى ذلك أ نّك دوماً تسيء الظنّ بنفسك وتحسن الظنّ بالآخرين ـ فإنّك إن فعلت ذلك سهّل الله عليك عيشك ، وكثر أصدقاؤك ، وقلّ أعداؤك ».
ولا يخفى أنّ أحاديث أهل البيت (عليهم السلام) ينابيع العلوم ومناهل الفضائل ، فهم عدل القرآن الكريم ، والثقل الثاني الذي خلّفه رسول الله ، ما إن تمسّك الإنسان بهما لن يضلّ أبداً ، وكما أنّ للقرآن وجوه وبطون ومناهل عذبة ، يرتوي منه كلّ ظمآن ، في أيّ علم من العلوم ، وأدب من الآداب ، وفنّ من الفنون ، كذلك الأخبار الواردة عن الرسول الأكرم وأهل بيته الأطهار ، الأئمة المعصومين الأبرار (عليهم السلام) ، فيمكن للقارئ النبيل أن يستخرج من حديث شريف عشرات اللالي والجواهر ، ويستضيء بنوره ، ويشعل مئات المشاعل الوهّاجة ، لتنير دروب البشرية ، وتسوق الناس إلى شاطئ السعادة الأبديّة ، فارجع البصر كرّة اُخرى لتقف على الحقيقة ، ودمت موفّقاً ومسدّداً.
[1]الأعراف : 85 .
[2]إبراهيم : 24.
[3]الزمر : 18.
[4]الأعراف : 204.
[5]فصّلت : 34.
[6]لقد ورد في الخبر النبويّ الشريف : « المؤمن مرآة المؤمن » ، وقد ذكرت 55 معنى لهذا الحديث الشريف ، وطبع في مجلّة ( نور الإسلام ) البيروتية ومجلّة ( الكوثر ) المطبوعة بقم ، العدد الثاني ، فراجع.
[7]البقرة : 206.
[8]سبأ : 24.
[9]الإسراء : 53.
[10]مرّ هذا الحديث الشريف إجمالا ، فأعدناه للتفصيل وللتركيز.