الحياة الإنسانية تمتاز عن العجماوات بالعقل وبالاُلفة وروح التفاهم والعلاقات الاجتماعية والصداقات الحميمة.
واعلم أنّ عالم الأصدقاء الذي له دعائم واُسس خاصّة لا تقوم ولا تدوم إلاّ بتوافرها وتعضّدها بسنن وآداب خاصّة ، وقد اهتمّ علماء الاجتماع والنفس والأخلاق بتشييدها وبيانها ودراستها في كلّ جوانبها وحقولها ، وإن كان القدر الجامع لتلك الاُسس هو عبارة عن المحبّة والتمسّك بالأخلاق الحميدة والآداب المجيدة.
فصنّف العلماء في وادي الصداقة والأصدقاء مصنّفاتهم القيّمة ومؤلّفاتهم الثمينة ، كلّ واحد ينظر إليها من منظاره الخاصّ ، ولما يحمل من خلفيّات ثقافيّة ، ربما تنحرف عن الحقائق والواقع ، لعدم إحاطتهم بمكنونات الإنسان وزوايا ضميره وجوانحه ، فيحسب أنّه عرف الإنسان ، وقدّم له ما يصلحه ويعالج أمراضه الفردية والاجتماعيّة ، ولكن كالظمآن الذي يحسب السراب ماءً.
ولكن من ارتبط بالوحي ، وكان علمه من الله جلّ جلاله العالم بالخفايا والسرائر ، كالأنبياء وأوصيائهم ، فإنّهم في تربية الإنسان يصيبون الهدف ولم ينحرفوا عن الصواب والحقيقة ، لما يحملونه من العلم اللّدنّي المطابق للواقع.
ومن هذا المنطلق إنّما نذكر في هذه العجالة التي تدور مباحثها حول الصديق والصداقة بعض الأحاديث[1] الشريفة الواردة عن الرسول الأكرم وأهل بيته الأطهار (عليهم السلام) لنقف بكلّ صدق وإخلاص على معالم الصداقة والأصدقاء ، فإنّ من نهج وسار على كتاب الله القرآن الكريم ، وسنّة الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله)ومنهاج الأئمة المعصومين (عليهم السلام) فقد سعد في الدنيا والآخرة ، ونال شرف الإنسانية ، وتسلّق قمم الكمال ، وحلّق في آفاق الحياة الطيّبة والعيش الرغيد.
قال أمير المؤمنين علي (عليه السلام) ناصحاً ولده : « بُنيّ : الصديق ثمّ الطريق » ، فمن أراد أن يسلك طريق الحياة بزاد وراحلة وأمان وسلامة ، لا بدّ له من الصديق الذي يكنّ لأخيه الصدق والصفاء والمحبّة والوفاء ، فيعينه في حلّ مشاكل الحياة ويرافقه في الضرّاء والسرّاء ، حاملا عنه أعباء المصاعب والمتاعب ، فإنّ الصداقة صناعة وفنّ ، يعني أن نتحلّى بالذوق السليم ، والفكر الصائب والقلب الحنون والضمير الواعي ، والأصدقاء الطيّبون كنوز وخزائن يجب البحث عنهم في أطراف الأرض ، حتّى لا يختلط الحجر بالجوهر : ( فسافر ففي الأسفار خمس فوائد : تفرّج همٍّ واكتساب معيشة وعلم وآداب وصحبة ماجد ) . ويلزم علينا أن نترجم الأخلاق الفاضلة في عالم الصداقة إلى واقع عملي ، فإنّ حسن المعاشرة والصداقة من العبادات ، وعليها تدور رحى الحضارات والمدنيّات والتقدّم والازدهار ، وإلاّ فحينما تنهار الاُسس الأخلاقية والمبادئ القيّمة في أيّ مجتمع ، فإنّه سرعان ما يسقط ويهوى إن عاجلا أو آجلا ، وسيعاني من أزمات خلقيّة واحدة تلو الاُخرى.
قال رسول (صلى الله عليه وآله) : « أبى الله عزّ وجل لصاحب الخلق السيّء بالتوبة ، فقيل له : وكيف ذلك يا رسول الله ؟ فقال : إذا تاب من ذنب وقع في ذنب أعظم منه » ، وهذا يصدق في الجماعات والمجتمعات أيضاً . وأمّا حسن الخلق فبه يعمر البلاد.
كما قال الرسول الأكرم : « أكثر ما تلج به اُمّتي الجنّة : تقوى الله وحسن الخلق ، وهما يعمران البلاد ويزيدان في الأعمار ».
ولقد كانت دعوة الأنبياء هي إصلاح الناس وهدايتهم نحو الله ، وما فيه الخير والسعادة ، قال النبيّ الأعظم : « إنّما بُعثت لاُتمّم مكارم الأخلاق » ، كما إنّ روح العبادات والطقوس الدينية ، إنّما هي الإصلاح الأخلاقي ، فعندما تمدح امرأة عند الإمام الصادق (عليه السلام) بالصوم والصلاة يسأل (عليه السلام) عن كيفيّة معاملتها مع جيرانها ، فيذمّوها ، فيقول (عليه السلام) : « إذن لا خير في صلاتها وصيامها ».
ويقول الحديث الشريف : « كم من صائم ليس له من صومه إلاّ الجوع والعطش ، وكم من قائم ليس له من قيامه إلاّ السهر والتعب » وكم من إنسان جرّه حسن خلقه إلى جنّات النعيم.
فلا بدّ لنا من حسن الخلق ، وعلينا أن ننتخب ونختار الصديق الجيّد ، فإنّ الجليس يؤثّر في طباع الإنسان ( لا تربط الجرباء حول صحيحة خوفي على الصحيحة أن تجرب ) ، ويقول أمير المؤمنين (عليه السلام) : « إيّاكم ومجالسة الملوك وأبناء الدنيا ، ففي ذلك ذهاب دينكم ويعقبكم نفاقاً ، وذلك داء دويّ لا شفاء له ، ويورث قساوة القلب ويسلبكم الخشوع ، وعليكم بالأشكال من الناس والأوساط منهم فعندهم تجدون معادن الجواهر ».
ويقول لقمان الحكيم لولده : « يا بني ، صاحب العلماء واقرب منهم وجالسهم وزرهم في بيوتهم ، فلعلّك تشبههم فتكون معهم ، واجلس مع صلحائهم فربما أصابهم الله برحمة فتدخل فيها فيصيبك ، وإن كنت صالحاً فابعد من الأشرار والسفهاء فربما أصابهم الله بعذاب فيصيبك معهم »[2].
ويقول الرسول الأعظم (صلى الله عليه وآله) : « المرء على دين خليله ، فلينظر أحدكم من يخلل ».
ويقول الإمام الحسن (عليه السلام) : « لا تواخِ أحداً حتّى تعرف موارده ومصادره ، فإذا استطبت الخبرة ورضيت العشرة فآخه على إقالة العثرة والمواساة في العُسرة ».
وقال الله سبحانه : ( وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمنِ نُقَيِّضُ لَهُ شَيْطاناً فَهُوَ لَهُ قَرينٌ )[3] ، ويقول سبحانه : ( وَقَيَّضْنا لَهُمْ قُرَناءَ فَزَيَّنوا لَهُمْ ما بَيْنَ أيْديهمْ وَما خَلـْفَهُمْ وَحَقَّ عَلَيْهِمُ القَوْلُ في اُمَم قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الجِنِّ )[4] ، وما أروع هذه الآية الشريفة التي تبيّن مصير قرين السوء ومن يتركه في الدنيا ، فيقول على لسانه : ( قالَ قائِلٌ مِنْهُمْ إنَّهُ كانَ لي قَرينٌ يَقولُ إنَّكَ لَمِنَ الصَّادِقينَ أإذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً وَعِظاماً أإنَّا لَمَدينونَ قالَ هَلْ أنْتُمْ مُطَّلِعونَ فَاطَّلَعَ فَرَآهُ في سَواءِ الجَحيمِ قالَ تاللهِ إنْ كِدْتَ لَتُرْدينِ وَلَوْلا نِعْمَةُ رَبِّي لَكُنْتَ مِنَ الُمحْضَرينَ )[5] ، ومثل هؤلاء الأصدقاء الذين يشكّكون بالمعاد وبمفاهيم الدين ومعالمه ليردوا بأصحابهم عاقبتهم سوء الجحيم ، وعلينا أن لا نخالطهم إلاّ من أجل هدايتهم وإصلاحهم.
قال رسول الله (صلى الله عليه وآله) : « خياركم أحسنكم أخلاقاً الذين يألفون ويؤلفون » ; فالإسلام يدعو إلى التحابب والتآلف والصداقة التي تبتنى على التقوى ، فإنّ الأخلاء كما قال الله تعالى : ( بَعْضُهُمْ لِبَعْض عَدُوٌّ إلاّ المُتَّقينَ )[6].
وقال النبيّ محمّد (صلى الله عليه وآله) : « إنّ المؤمن يسكن إلى أخيه ما يسكن الظمآن إلى الماء البارد ».
وقال
الإمام الصادق (عليه
السلام) :
« لكلّ شيء شيء يستريح إليه ، وإنّ المؤمن
يستريح
إلى أخيه ما يستريح الطير إلى شكله ».
وودّ المؤمن للمؤمن من أفضل شعب الإيمان ، فلا بدّ من صديق وخليل مؤمن في الحياة ، بل الله سبحانه اتّخذ لنفسه خليلا ، حيث يقول سبحانه في كتابه الكريم : ( وَاتَّخَذَ اللهُ إبْراهيمَ خَليلا )[7].
ويقول الرسول الأكرم : « ما استفاد امرئ مسلم فائدة بعد فائدة الإسلام مثل أخ يستفيده في الله ».
ويقول الأمير (عليه السلام) : « خير الإخوان من كانت في الله مودّته » ، « على التواخي في الله تخلص المحبّة » ، « إخوان الدين أقرب للمودّة » ، فالصداقة في الإسلام ليست من أجل المصالح الشخصيّة والدنيا الدنيّة ، وإنّما هي من أجل المبادئ الدينية ، والقيم الأخلاقية ، ونعيم الجنّة.
وعلينا أن نعاشر الناس خير معاشرة فيقول الأمير (عليه السلام) : « خالطوا الناس مخالطة إن عشتم معها حنّوا إليكم وإن متّم معها بكوا عليكم ».
ويقول الرسول (صلى الله عليه وآله) : « أحبّكم إلى الله الذين يألفون ويؤلفون ، وأبغضكم إلى الله المشّاؤون بالنميمة المفرّقون بين الإخوان ».
كلّ ذلك إيماء إلى المسلم بالحياة الجماعية والابتعاد عن العزلة المذمومة : ( إيَّاكَ نَعْبُدُ وَإيَّاكَ نَسْتَعينُ اهْدِنا الصِّراطَ المُسْتَقيمَ صِراطَ الَّذينَ أنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ المَغْضوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ )[8].
ويقول الأمير (عليه السلام) : « لقاء الإخوان مغنم جسيم وإن قلّوا » ، « أعجز الناس من عجز عن اكتساب الإخوان ، وأعجز منه من ضيّع من ظفر به منهم » ، « المرء كثيرٌ بإخوانه ».
يقولون إنّ الموت صعبٌ على الفتى *** مفارقة الأحباب والله أصعب
* * *
تكثر من الإخوان ما استطعت إنّهم *** كنوز إذا ما استنجدوا وظهور
وليس كثيراً ألفُ خلٍّ وصاحب *** وإن عدوّاً واحداً لكثيرُ
وقال الإمام الصادق (عليه السلام) : « أكثروا من الأصدقاء فإنّهم ينفعون في الدنيا والآخرة ، أمّا الدنيا فحوائج يقومون بها ، وأمّا الآخرة فأهل جهنّم قالوا : فما لنا من شافعين ولا صديق حميم ».
ويقول الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله) : « ما أحدث عبد أخاً في الله إلاّ وأحدث الله له درجة في الجنّة ».
ويقول الإمام الرضا (عليه السلام) : « من استفاد أخاً في الله فقد استفاد بيتاً في الجنّة ».
ويقول الإمام الباقر (عليه السلام) : « من استفاد أخاً في الله على إيمان الله ووفاء بلقائه طالباً لمرضاة الله فقد استفاد شعاعاً من نور الله وأماناً من عذاب الله وحجّة يفلح بها ».
فالصديق والأخ في الله ، فيه فوائد جمّة في الدنيا والآخرة ، والاعتزال الممدوح ما كان عن القوم الفاسقين ، كما فعل إبراهيم الخليل وأصحاب الكهف ، ويقول الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله) : « الوحدة خير من قرين السوء » ، ويقول (صلى الله عليه وآله) : « من كان يؤمن بالله واليوم الإخر فلا يجلس في مجلس يُسبُّ فيه إمام ويعاب فيه مسلم ، إنّ الله يقول : ( وَإذا رَأيْتَ الَّذينَ يَخوضونَ في آياتِنا فَأعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخوضوا في حَديث غَيْرِهِ فَإمَّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطانُ فَلا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرى مَعَ القَوْمِ الظَّالِمينَ )[9].
ويقول الأمير (عليه السلام) : « إيّاك ومصاحبة الفُسّاق ، فإنّ الشرّ بالشرّ يلحق » ، فالعاقل يأنس بذكر الله ويستوحش من الناس ومن مجتمع مضمحلّ ، ويسودها الرذالة والخباثة ، والمكر والحيلة ، والتكالب كالحيوانات الضارية.
وأمّا مع إخوان الثقة فيسعى إلى معاشرتهم ومرافقتهم بكلّ ما في وسعه[10] ، فإنّ الحياة تحلو مع إخوان الصفا والمحبّة ، ويقول أمير المؤمنين (عليه السلام) : « من لانت عريكته وجبت محبّته ، من خشنت عريكته أفقرت حاشيته » ، فليس بأخ من ضيّعت حقوقه » ، فعلى كلّ واحد أن يراعي حقوق الصداقة بكلّ اتّزان واعتدال ، بلا تفريط ولا إفراط ، كما جاء في الحديث الشريف : « أحبب حبيبك هوناً ما ، عسى أن يكون بغيضك يوماً ما ، وأبغض بغيضك هوناً ما ، عسى أن يكون حبيبك يوماً ما ».
ثمّ الأصدقاء على نوعين ، كما صنّف ذلك أمير المؤمنين عليّ (عليه السلام) ، فقال : « الإخوان صنفان : إخوان الثقة وإخوان المكاشرة ، فإخوان الثقة كالكفّ والجناح والأهل والمال ،: فإذا كنت في أخيك على ثقة ، فابذل له مالك ويدك ، وصافِ من صافاه وعادِ من عاداه واكتم سرّه ، وأظهر منه الحسن ، واعلم أنّهم أقلّ من الكبريت الأحمر ! وأمّا إخوان المكاشرة فإنّك تصيب منهم لذّتك ولا تقطعنّ ذلك منهم ولا تطلبنّ ما وراء ذلك من ضميرهم ، وابذل لهم ما بذلوا لك من طلاقة الوجه وحلاوة اللسان ».
والإمام الصادق (عليه السلام) يقسّم الأصدقاء إلى ثلاثة أقسام : « الإخوان ثلاثة : واحد كالغذاء الذي يحتاج إليه في كلّ وقت وهو العاقل ، والثاني في معنى الداء وهو الأحمق ، والثالث في معنى الدواء وهو اللبيب ».
وإذا أردت أن تعرف إخوانك ومن أيّ صنف هم فاختبرهم ، فيقول الأمير (عليه السلام) : « لا يعرف الناس إلاّ بالاختبار » ، و « لا تثق بالصديق قبل الخبرة » ، و « لا ترغبنّ في مودّة من لم تكتشفه » ، و « من قلّب الإخوان عرف جواهر الرجال » ، فتختبره بقلبك أوّلا : فهل تحبّه وتهواه ، فإنّ « الأرواح جنود مجنّدة ما تعارف منها ائتلف وما تناكر منها اختلف » . فالقلوب شواهد ، وجاء في الحديث الشريف : « إعرف المودّة لك في قلب أخيك بما له في قلبك » ، و « انظر قلبك فإن أنكر صاحبك فإنّ أحدكما قد أحدث شيئاً » ، وثانياً : الاختبار بالمال ومقدار نصرته المالية عند احتياجك ، فقد جاء في الحديث الشريف : « ثلاثة لا تعرف إلاّ في ثلاثة : لا يعرف الحليم إلاّ عند الغضب ، ولا الشجاع إلاّ عند الحرب ، ولا الأخ إلاّ عند الحاجة » ، ومن أبرز الحاجات بذل الروح والمال ، فالأخ المواسي في الفاقة والحاجة هو الصديق حقّاً ، وقد ضرب أصحاب الإمام الحسين أروع مثال في معالم الصداقة والفداء وذلك ليلة عاشوراء حينما أيقنوا بالشهادة والموت فقالوا : « أبا عبد الله أكلتنا السباع أحياء إن فارقناك ، ووالله لو كانت الحياة باقية ، وما كان بعد الموت شيء ، لآثرنا الموت معك على الحياة مع هؤلاء ».
ثمّ الصديق المحبّ له علامات ، فقد قال رسول الله (صلى الله عليه وآله) : « صديق المحبّة في ثلاثة : يختار كلام حبيبه على كلام غيره ، ويختار مجالسة حبيبه على مجالسة غيره ، ويختار رضى حبيبه على رضى غيره » ، وعليك أن تمتحن صديقك في الشدائد كما تمتحن فيها ، وفي الحديث الشريف : « يمتحن الصديق في ثلاثة ، فإن كان مؤاتياً فيها فهو الصديق المصافي ، وإلاّ كان صديق رخاء لا صديق شدّة : تبتغي منه مالا أو تأمنه على مال أو مشاركة في مكروه » ، و « اختبر صديقك في مصيبتك ».
ويقول الأمير (عليه السلام) : « في الضيق يظهر حسن مواساة الصديق ».
ما أكثر الإخوان حين تعدّهم *** لكنّهم في النائبات قليلُ
ويقول (عليه السلام) : « لا تعدّنّ صديقاً من لم يواسِ بماله » ، كما من طرق الاختبار : الإغضاب ، ففي الحديث الشريف : « إذا أردت أن تعلم صحّة ما عند أخيك فاغضبه فإن ثبت لك على المودّة فهو أخوك وإلاّ فلا » ، وفي آخر : « من غضب عليك من إخوانك ثلاث مرّات ولم يقل فيك مكروهاً فأعدّه ( أي ادّخره ) لنفسك » ، كما من عوامل الامتحان : السفر ، فقد جاء في الحديث الشريف : « لا تسمّي الرجل صديقاً حتّى تختبره بثلاثة خصال : حين تغضبه فتنظر غضبه أيخرجه من حقّ إلى باطل ؟ وحين تسافر معه ، وحتّى تختبره بالدينار والدرهم ».
ثمّ علينا أن نختار من بين الناس أصدقاء ، ومن بين الأصدقاء إخواناً تجتمع فيهم الصفات التالية :
العلم : فإنّه ورد في الحديث : « خذ العلم من أفواه الرجال » ، ويقول الأمير (عليه السلام) : « خير من صاحبت ذوو العلم والحلم » ، و « عجبت لمن يرغب في التكثّر من الأصحاب كيف لا يصحب العلماء » ، ويقول (عليه السلام) : « ينبغي للعاقل أن يكثر من صحبة العلماء والأبرار » ، وفي آخر : « اعلموا أنّ صحبة العالم واتبّاعه دين يدان به وطاعته مكسبة للحسنات ، ممحاة للسيّئات ، وذخيرة للمؤمنين ، ورفعة في حياتهم وفي مماتهم ، وجميل الاُحدوثة عند موتهم » ، وفي آخر : « من مشى إلى العالم خطوتين وجلس عنده لحظتين ، سمع منه مسألتين ، بنى الله له جنّتين ، كلّ جنّة أكبر من الدنيا مرّتين ».
ولقمان الحكيم ينصح ولده قائلا : « من يحالس العلماء يغنم » ، « يا بني جالس العلماء وزاحمهم بركبتيك فإنّ القلوب لتحيا بالحكمة كما تحيا الأرض الميتة بوابل المطر ».
وقال النبيّ (صلى الله عليه وآله) : زيارة العلماء أحبّ إلى الله تعالى من سبعين طوافاً حول البيت ، وأفضل من سبعين حجّة وعمرة مبرورة مقبولة ، ورفع الله تعالى له سبعين درجة ، وأنزل الله عليه الرحمة ، وشهدت له الملائكة أنّ الجنّة وجبت له.
وقال (صلى الله عليه وآله) : ما من مؤمن يقعد ساعة عند العالم إلاّ ناداه ربّه عزّ وجلّ : جلست إلى حبيبي ، وعزّتي وجلالي لأسكنتك الجنّة معه ، ولا اُبالي.
وقال (صلى الله عليه وآله) : يا أبا ذرّ ، الجلوس ساعة عند مذاكرة العلم أحبّ إلى الله من قيام ألف ليلة يصلّي في كلّ ليلة ألف ركعة ، والجلوس ساعة عند مذاكرة العلم أحبّ إلى الله من ألف غزوة ، وقراءة القرآن كلّه.
كما علينا أن نعاشر الحكماء ومن صقلته التجارب ، يقول الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله) : « سائلوا العلماء وخاطبوا الحكماء وجالسوا الفقراء ».
ويقول الأمير (عليه السلام) : « صاحب الحكماء وجالس العلماء وأعرض عن الدنيا » ، فالحكيم يهديك المشورة الصالحة والمفيدة في حياتك ، وهلك من لم يكن له حكيم يرشده ، فإنّ نصائح الحكيم تعدّ بمنزلة المشاعل الوهّاجة في دروب الحياة . كما علينا أن نصادق من كان عاقلا ، ففي الحديث الشريف : « عدوّ عاقل خير من صديق جاهل » ، فإنّ الجاهل الأحمق يريد أن ينفعك فيضرّك ، فيفسد عليك العمل وإن كان طيّب القلب ، وقد جاء في الحديث الشريف : « فساد الأخلاق معاشرة السفهاء ، وصلاح الأخلاق معاشرة العقلاء » ، وفي آخر : « لا تصحب إلاّ عاقلا تقيّاً ، ولا تخالط إلاّ عالماً زكيّاً ، ولا تودع سرّك إلاّ مؤمناً وفيّاً » . والأئمة الأطهار (عليهم السلام) ركّزوا على هذه العلامات : العاقل التقي والعالم الزكي والمؤمن الوفي ، وهدوا الناس إلى من يحسن معاشرته وحذّروهم عمّن يشين مصادقته ، فإنّ الصديق يؤثّر على قلب الإنسان ، ويقول الأمير (عليه السلام) : « عمارة القلوب في معاشرة ذوي العقول » ، ويقول (عليه السلام) : « من صاحب العقلاء وقر » ، وفي آخر : « معاشرة العقلاء تزيد في الشرف » ، كما علينا أن نعاشر من كان زاهداً في دنياه ويذكّرنا بعمله عوالم الآخرة ويشوّقنا إلى نعيم الجنّة ، ففي الحديث الشريف : « ليكن جلساؤك الأبرار وإخوانك الأتقياء والزهّاد ; لأنّ الله تعالى يقول في كتابه : ( الأخِلاّءُ يَوْمَئِذ بَعْضُهُمْ لِبَعْض عَدُوٌّ إلاّ المُتَّقينَ ).
ويقول الإمام الصادق (عليه السلام) : « إحذر أن تواخي من أرادك لطمع أو خوف أو فشل أو أكل أو شرب ، واطلب مؤاخاة الأتقياء ولو في ظلمات الأرض ، وإن أفنيت عمرك في طلبهم ، فإن الله عزّ وجلّ لم يخلق على وجه الأرض أفضل منهم بعد النبيّين ، وما أنعم الله على العبد بمثل ما أنعم به من التوفيق لصحبتهم » ، وفي حديث آخر : « إذا رأيتم الرجل قد اُعطي الزهد في الدنيا فاقتربوا منه فإنّه يلقي الحكمة » ، وفي آخر : « مجالسة أهل الدين شرف الدنيا والآخرة ، ومجالسة الصالحين داعية إلى الصلاح ، وآداب العلماء زيادة في العقل » فعلينا أن نبحث عن الأتقياء الزهّاد لنعاشرهم ونتكامل في مصادقتهم ومراودتهم ، وليس الزهد أن لا تملك شيئاً ، بل أن لا يملكك شيء ، وقد جمع الزهد في هاتين الكلمتين : ( لِكَيْ لا تَأسَوْا عَلى ما فاتَكُمْ وَلا تَفْرَحوا بِما أتاكُمْ ).
وإذا كنت تبحث عن السعادة فقد جاء في الحديث الشريف : « أسعد الناس من خالط كرام الناس » ، وفي آخر : « من عاشر أهل الفضائل تنبّل » ، أي يكون نبيلا فاضلا ، وفي الحديث الشريف : « قارن أهل الخير تكن منهم ، وبائن أهل الشرّ تبن عنهم » ، وفي آخر : « عليك بإخوان الصدق فإنّهم زينة في الرخاء وعصمة في البلاء » ، وفي آخر : « أخوك من لا يخذلك عند الشدّة ، ولا يقعد عنك عند الجريرة ، ولا يخدعك حين تسأله » ، وفي آخر : « من عامل الناس فلم يظلمهم ، وحدّثهم فلم يكذبهم ، ووعدهم فلم يخلفهم فهو ممّن كملت مروءته وظهرت عدالته ووجبت اُخوّته ».
ويقول الإمام الكاظم (عليه السلام) : « إيّاك ومخالطة الناس والاُنس بهم ، إلاّ أن تجد منهم عاقلا ومأموناً فأنس به ، واهرب من سائرهم كهربك من السباع الضارية » . وفي الحديث النبويّ الشريف : « لا تجالسوا إلاّ عند من يدعوكم من خمس إلى خمس : من الشكّ إلى اليقين ، ومن الكبر إلى التواضع ، ومن العداوة إلى المحبّة ، ومن الرياء إلى الإخلاص ، ومن الرغبة في الدنيا إلى الزهد » ، وصديقك : « من إن سألته أعطاك ، وإن سكتّ عنه ابتداك » ، ففتّش عن الصديق الذي تجتمع فيه المكارم والفضائل لتسعد في الدارين ، فإنّ من سعادة المرء الصديق المؤمن الوفي.
[1]نقلت الأحاديث من كتاب « الصداقة والأصدقاء » للسيّد هادي المدرّسي ، ونهجت في هذه الرسالة منهج كتابه ، وقد جاء معظم الروايات في كتاب « مصادقة الإخوان » للشيخ الصدوق عليه الرحمة ، وكتاب « كيف تكسب الأصدقاء » للسيّد الحيدري ، و « ميزان الحكمة » للشيخ ريشهري 5 : 292 ـ 315 و 1 : 42 ـ 64 باب الاُخوّة ، وبحار الأنوار 77 و 74 : 173 باب فضل الصديق وحدود الصداقة والصفحة 183 باب من ينبغي مجالسته ومصادقته ومصاحبته ، وكتاب « الصحبة » من كنز العمّـال 9 : 3 و 273 ، وقد كتب علماء الغرب في هذا المضمار أيضاً ، منهم الكاتب الشهير ديل كارنجي وكتابه المعروف « كيف تكسب الأصدقاء » ، فراجع الروايات الشريفة ، وقد ذكرت كثيراً منها في هذه الرسالة لتقف على الحقيقة التي قالها أئمة أهل البيت (عليهم السلام) قبل أربعة عشر قرناً ، وحتّى ترى من هو أحقّ أن يتّبع ؟ ( أفَمَنْ يَهْدي إلى الحَقِّ أحَقُّ أنْ يُتَّبَعَ أمَّنْ لا يَهْدي إلاّ أنْ يُهْدى ) ( القرآن الكريم ، يونس : 35 )
[2]وقال أمير المؤمنين علي (عليه السلام) : « صحبة الأشرار تكسب الشرّ كالريح إذا مرّت بالنتن حملت نتناً »
قال (عليه السلام) : « مصاحب الأشرار كراكب البحر إن سلم من الغرق لم يسلم من الفرق » ، و « إيّاك ومصاحبة الشرّير ، فإنّه كالسيف المسلول يحسن منظره ويقبح أثره ».
ويقول الإمام الصادق (عليه السلام) : « اصحب من تتزيّن به ، ولا تصحب من يتزيّن بك ».
وقال الأمير (عليه السلام) : « أكثر الصواب والصلاح في صحبة اُولي النُهى والألباب » ، ( صاحب الحكماء وجالس الحلماء ، وأعرض عن الدنيا تسكن جنّة المأوى » ، « صاحب العقلاء وجالس العلماء واغلب الهوى ترافق الملأ الأعلى » ، « صحبة اللبيب حياة الروح » ، « عجبت لمن يرغب في التكثّر من الأصحاب كيف لا يصحب العلماء الألبّاء الأتقياء الذين يغنم فضائلهم وتهذّبه علومهم وتزيّنه صحبتهم » ، « من دعاك إلى الدار الباقية وأعانك على العمل فهو الصديق الشفيق ».
وقال الإمام الصادق (عليه السلام) : « اُنظر كلّ من لا يفيدك منفعة في دينك فلا تعتدنّ به ولا ترغبنّ في صحبته ، فإنّ كلّ ما سوى الله تبارك وتعالى مضمحلّ وخيم عاقبته ».
وقال الأمير (عليه السلام) : « من لا يصحبك معيناً على نفسك فصحبته وبال عليك إن علمت ».
ويقول الرسول (صلى الله عليه وآله) : « من لم تنتفع بدينه ودنياه فلا خير لك في مجالسته ، ومن لم يوجب لك فلا توجب له ولا كرامة » ، « احذر مصاحبة الفسّاق والفجّار والمجاهرين بمعاصي الله » ، « احذر من الناس ثلاثة : الخائن والظلوم والنمّام ، لأنّ من خان لك خانك ، ومن ظلم لك سيظلمك ، ومن نمّ إليك سينمّ عليك » ، « إذا سمعت أحداً يتناول أعراض الناس فاجتهد أن لا يعرفك فإنّ أشقى الأشخاص به معارفه » ، « لا خير لك في صحبة من لا يرى لك مثل الذي يرى لنفسه » ، « اتّقوا من تبغضه قلوبكم » ، « إيّاك ومعاشرة متتبّعي عيوب الناس فإنّه لم يسلم مصاحبهم منهم » ، « لا تصاحب همّازاً فتعدّ مرتاباً » ، « صديق الجاهل متعوب منكوب » ، « عدوّ عاقل خيرٌ من صديق أحمق » ، « ألا كلّ خلّة كانت في الدنيا في غير الله عزّ وجلّ فإنّها تصير عداوة يوم القيامة » ، « توقّوا مصاحبة كلّ ضعيف الخير قويّ الشرّ خبيث النفس ، إذا خاف خنس وإذا أمن بطش » ، « إيّاك ومخالطة السفلة فإنّ مخالطة السفلة لا تودّي إلى خير » ، « إيّاك وصحبة من ألهاك وأغراك فإنّه يخذلك ويوبقك ».
قال الإمام السجّاد : « يا بني ، إيّاك ومصاحبة القاطع لرحمه ، فإنّي وجدته ملعوناً في كتاب الله في ثلاث مواضع » ، « إيّاك ومصاحبة الكذّاب ، فإن اضطررت إليه فلا تصدّقه ولا تعلمه أنت تكذّبه ، فإنّه ينتقل عن ودّك ولا ينتقل عن طبعه ».
راجع ميزان الحكمة 5 : 305.
[3]الزخرف : 36.
[4]فصّلت : 25.
[5]الصافّات : 53.
[6]الزخرف : 67.
[7]النساء : 125.
[8]الحمد : 4 ـ 7.
[9]الأنعام : 68.
[10]عن أمير المؤمنين عليّ (عليه السلام) : « الصديق أقرب الأقارب » ، « الصديق أفضل الذخرين » ، « من لا صديق له لا ذخر له » ، « الأصدقاء نفس واحدة في جسوم متفرّقة ».
ويقول الإمام الصادق (عليه السلام) : « لقد عظمت منزلة الصديق حتّى أهل النار ليستغيثون به ويدعون به في النار قبل القريب الحميم ، قال الله مخبراً عنهم : ( فَما لَنا مِنْ شافِعينَ وَلا صَديق حَميم ) ( ميزان الحكمة 5 : 296 ).