الحمد لله الذي أمرنا لنكون مع الصادقين ، والصلاة والسلام على أشرف خلق الله محمّد الصادق الأمين ، وعلى آله الأئمة الصادقين الهداة المهديّين ، لا سيّما بقيّة الله في الأرضين ، عجّل الله فرجه الشريف.
« يا صديق من لا صديق له »[1].
وردت هذه المقطوعة النورانية في كثير من مناجاة وأدعية الأئمة الأطهار (عليهم السلام) ، هي تشير إلى أنّ الصديق الأوّل الذي يستحقّ كلّ الصداقة ، وتتجلّى معه مفاهيمها وحقيقتها ، وإنّها لا يقاس بها في حسنها وفضلها وضرورتها وتقدّمها ، هو الله سبحانه وتعالى.
فإنّه خير رفيق لمن لا رفيق له ، وخير صديق لمن لا صديق له ، خير مؤنس لمن لا مؤنس له ، عماد من لا عماد له ، ذخر من لا ذخر له ، سند من لا سند له ...
فهو الواجب الوجود المستجمع لجميع صفات الكمال والجمال ، فإنّه مطلق الكمال والكمال المطلق ، ومن عظمته ورحمته وشفقته ، أن يكون صديقاً لعبده الذي لا يملك شيئاً ، الجاهل العاجز ، فما أكرمه وأعظمه ؟ ! وما أروع صداقته ورفاقته ؟ !
وهل يفتقر الإنسان إلى صديق آخر بعد صداقته ؟ إلاّ إلى اُولئك الذين هم مظهر صدق الله ، فإنّ صداقتهم من صداقة الله ، كالأنبياء والأولياء ومن يحذو حذوهم من العلماء والصلحاء.
أجل : ماذا يقصد ويراد من الصداقة ؟ وما هي أهدافها ؟ أليس المؤانسة ورفع الهمّ والغمّ وقضاء الحاجة ، والدفاع عند مداهمة العدوّ ، ورفع المشاكل ودفع المصاعب ، وتمشية الاُمور ، وتطوير العمل والتحدّث والمذاكرة وغير ذلك من القضايا الفردية والاجتماعية التي يتوخّاها الإنسان من الصداقة ؟
وكلّ هذا يصل إليه المؤمن ويحصل عليه لو صادق ربّه الكريم ، فإنّه ينال كلّ ذلك على النحو الأتمّ والأفضل ، بل لا يقاس به شيء ، فمن كان ربّه العالم بكلّ شيء ، القادر على كلّ شيء ، صديقه ورفيقه في الحياة ، فإنّ ذلك يعني أنّ العلم المطلق والقدرة المطلقة والحياة المطلقة ، وباقي الصفات العليا والأسماء الحسنى ، على نحو الأبدية والأزلية والسرمدية ، وبلا نهاية تواكبه وتسايره في حياته الروحية الدنيوية والاُخروية ، حتّى يصل إلى قاب قوسين أو أدنى ، في مقعد صدق عند مليك مقتدر ، صادق في وعده وكرمه وجوده ، فماذا يحتاج الإنسان بعد هذا ؟ ! أليس من كان لله كان لله له ؟ وهل بعد هذا المقام العظيم مقام ودرجة ورفعة ؟ هيهات هيهات ، ولا يلقّاها إلاّ ذو حظّ عظيم.
فالصديق الأوّل هو الله سبحانه وتعالى ، وهو أحقّ بالصداقة ، ثمّ يستحقّها كلّ من عليه اسم الله عزّ وجلّ ، فإنّه موضع الصداقة حقّاً . وإنّها أحقّ بالموافاة والبذل ، كصداقة الأنبياء والأوصياء والأولياء ، ومن يسلك مسلكهم ، وينهج منهجهم ، فإنّه أولى بالصداقة ، ولا بأس لو سمّيناها بالصداقة الدينية أو الاُخرويّة ، فإنّ بدايتها وأساسها على الدين ، ونهايتها وغايتها الآخرة ، فمثل هذه الصداقة تدوم إلى يوم القيامة ، يوم يكون الأخلاّء والأصدقاء بعضهم لبعض عدوّاً إلاّ المتّقين ، فإنّهم أسّسوا صداقتهم من اليوم الأوّل على التقوى ، فهي أحقّ أن تقام وتبقى ، وتؤتي اُكلها ، وتعطي ثمراتها في الدنيا والآخرة ، فصداقتهم صداقة تقوائية إلهيّة ربّانية ، تحوطها هالات قدسية ونفحات سبحانية ، خلافاً لأهل الدنيا وصداقتهم الماديّة الدنيوية ، التي تؤسَّس على المطامع والمصالح المزيّفة والزائلة ، وعلى المال والجاه والرئاسة وحبّ الدنيا والوسوسات الشيطانية ، فمثل هذه الصداقة بنيت على جرف هار ، نهايتها نار جهنّم وبئس المصير.
فلا بدّ أن نعرف من هو الصديق الصادق المصدّق في حياتنا الدنيويّة ، الذي تتمثّل فيه الصداقة الإلهيّة ، والتي تصاحبنا إلى يوم القيامة ، يوم لا ينفع فيه مالٌ ولا بنون إلاّ من أتى الله بقلب سليم.
فلا بدّ أن نعرف من نعاشره في حياتنا ، فإنّ الطبع يكسب في الصفات والأخلاق ، وأنّ المرء يُعرف بخليله وصاحبه وصديقه ، فمن هو الصديق حقاً ؟ وما هي الصداقة الواقعيّة ؟
هذا ما أردنا أن نصل إليه من خلال هذه الرسالة المجملة والمختصرة ، وقد صغت مباحثها في مقدّمة وفصول ستّة وخاتمة :
المقدّمة : ضرورة الصديق في حياة الإنسان.
الفصل الأوّل : نماذج ممّن تضرّ معاشرتهم.
الفصل الثاني : كيفية كسب الأصدقاء ومودّتهم.
الفصل الثالث : أفضل صاحب وأكمل صديق.
الفصل الرابع : أجواء الصداقة وأرضيّتها.
الفصل الخامس : من آداب الصداقة.
الفصل السادس : المؤثّرات في عالم الصداقة.
الخاتمة : حقوق الاُسرة والأقرباء.
كلّ ذلك من خلال الآيات القرآنية وفي رحاب أحاديث أئمّة أهل البيت الأطهار (عليهم السلام).
ومن الله التوفيق والسداد.
[1]من كتاب « مفاتيح الجنان » ، في دعاء جوشن الكبير.