من الأخبار الدالة على أصالة البراءة الشرعية: حديث الحليّة، والذي يدل على أصالة الخليفة أيضاً وهو القول المشهور الذي عُدّ من القواعد والكبريات الفقهيّة في قولهم (كل شيء فيه حلال وحرام فهو لك حلال حتى تعرف الحرام منه بعينه فتدعه).

فصدرت هذه القاعدة الكبرى عن أئمتنا الأطهار^ في عدّة أحاديث.

منها: ما رواه الصدوق في (الفقيه: 3: 216) عن الحسن بن محبوب عن عبد الله بن سنان عن أبي عبد الله× قال: كل شيء يكون فيه حلال وحرام فهو لك حلال أبداً حتى تعرف الحرام منه بعينه فتدعه.

والحديث صحيح السند.

ومنها: ما رواه الكليني عن محمد بن يحيى عن أحمد بن محمد بن عيسى عن إبن محبوب (أبي أيوب) عن عبد الله بن سنان عن عبد الله بن سليمان قال: سألت أبا جعفر× عن الجبن؟ فقال لي: لقد سألتني عن طعام يعجبني، ثم أعطى الغلام درهماً، فقال: يا غلام ابقع لنا جبناً، ثم دعا بالغداء، فتغّذينا معه، فأتى بالجبن فأكل وأكلنا، فلمّا فرغنا من الغداء.

قلت: ما تقول في الجبن؟ قال: أو لم ترني آكله، قلت: بلى أو لكنّي أحبّ أن أسمعه منك.

فقال×: سأخبرك عن الجبن وغيره: كلّ ما كان فيه حلال وحرام فهو لك حلال حتى تعرف الحرام بعينه فتدعه ^([1]).

ومنها: ما رواه البرقي في (المحاسن) بإسناده عن معاوية بن عمّار عز وجل من أصحابنا، قال: كنت عند أبي جعفر× فسأله رجل عن الجبن، فقال أبو جعفر×: إن الطعام يعجبني فسأخبرك عن الجبن وغيره، كلّ شيء فيه الحلال والحرام فهو لك حلال حتى تعرف الحرام فتدعه بعينه^([2]).

ومنها: كما يظهر من الشيخ الأعظم+ في قوله (كل شيء لك حلال حتى تعلم أنّه حرام) أنها رواية مستقلة غير هذه الروايات والله العالم.

وكيف ما كان؟ فإنّ الظاهر من الأخبار إن شك الراوي من جهة ما كان يراه من بعض الناس بجعل الأنفحة التي من الميتة في الجبن، فسأل الإمام× عن ذلك.

والمتبادر من ذلك إنّ تمام السبب في الحكم بالإباحة هو الشك والجهل بالحرمة، وأنّه لا يمنع من القول بالحلية مع وجود العلم الإجمالي بوقوع (نفحة الميتة في بعض أفراد الجبن)، فما دام لم يعلم ذلك يعينه فهو في حلّ من ذلك وهذا ما يدل على البراءة في الأحكام التكليفية، إلّا أنّه ربما يقال: بإختصاص الحديث بالشبهات الموضوعيّة لوجوه :

الأول: بقرينة السؤال عن الجبن كما في جملة من الأخبار في الباب. والثاني: وكذلك ما ورد في الحديث من لفظة (تعرف) دون تعلم بناءً على أن المعرفة إنما نستعمل في إدراك الأمور الجزئية كمعرفة زيد، فلا تشمل الشبهات الحكميّة، لأنّ الأحكام من الكليات.

والثالث: بقرينة ظهور قوله× (بعينه) في الشبهات الموضوعية.

والظاهر وإن كان يمكن المناقشة في الإستظهارات من كل واحد من هذه القرائن الدالة على الإختصاص بالشبهات الموضوعية، إلّا أنه بملاحظة المجموع من حيث المجموع ربما يقال بحصول الإطمئنان بذلك بأن الأخبار مختصة بالشبهات الموضوعية دون الحكمية فلا تدل على المطلوب فتأمل.

هذا كلّه في الإستدلال بالأخبار والسنة للبراءة في الشبهات والتي دلت من حيث المجموع على البراءة الشرعية والحمد لله رب العالمين.

الدليل الثالث: الإجماع

من الأعلام من يستدل على أصالة البراءة بالإجماع، إلّا أنّه من الإجماع المدركي يقيناً أو إحتمالاً لكون المسألة ممّا تظافرت به الأدلة.

وإنّما ينفع الإجماع بقسميه المحصل والمنقول فيما لم يقم دليل العقل أو النقل، ومعهما كما في المقام فلا معنى للإجماع التعبدي الكاشف عن قول المعصوم× بل يكون من إستناد المجمعين إلى حكم العقل والنقل في المسألة، فيكون من الإجماع المدرسي اي محتمل المدرك لو لم يكن مظنون المدرك أو مقطوعه.

فدعوى الإجماع يمنع صغرى وكبرى .

أما الأول: فلأن إجماع العلماء والمجتهدين على البراءة فيما لم يرد نص على تحريمه فإنه يرجح إلى حكم العقل وهو قبح العقاب بلا بيان وهذا من المسلمات عند الجميع، وإن كان الإجماع بمعنى إجماع جميع الأصحاب على عدم وجوب الإحتياط فيما لم يرد دليل معتبر على حرمته فيجوز إرتكابه فهذا لا يتم لمخالفة الاخبار بين لذهابهم إلى وجوب الإحتياط في الشبهة التحريمية الحكمية التي هي مورد النزاع والبحث. ولا يقال بعدم قدح مخالفتهم في تحقق الإجماع وجملة منهم من أعيان الأصحاب واجلاءهم.

وأمّا الثاني: على تقدير تحقته فإنه لا ينفع لعدم كشفه عن قول المعصوم× لإحتمال كون إجماعهم مدركيّاً فتدبّر.

الدليل الرابع: العقل، وهذا ما يأتينا بيانه إن شاء الله تعالى.