أصول (30)

14 ربيع الأول

1442 هـ

يقع الكلام عطفاً على ما سبق: في بيان أدلة جواز تقليد الميت، فمنها: إستصحاب جواز تقليده في حال حياته.

بيان ذلك: لا يخفى سواء في الفقه أو الأصول أو أي علم آخر في تحقيق مسائله وما فيه الإختلاف من حيث المباني والأقوال والوجوه والأدلة قبل الدخول في صلب الموضوع يقومون بتأسيس أصل وقاعدة، ثم يدخلون في الصراعات العلمية وبيان الأقوال والأدلة، فإن وقع الإختيار على قول أوالقول برأي جديد من خلال المستفاد من ظواهر الأدلة، فهو وإلّا فإنه يرجع إلى الأصل العملي أو العقلي والقاعدة الأولى في المسألة.

ومن هذا المنطق والمبنى في المقام فقد ذكر الأعلام أنّ الأصل في جواز تقليد الميت هو الإستصحاب، فإنّه كان يقلد في حياته بعد موته نشك في جواز تقليد، فإنّه لا تنقض اليقين بالشك بل انقضه بيقين آخر، فيستصحب جواز تقليده إلى ما بعد وفاته.

وقد قرّر هذا الإستصحاب بوجوه، كما في تقريرات شيخنا الأعظم قدس سره حيث قال: (وتقريره من وجوه، فإنّه تارة يراد به إنسحاب الحكم المستفتى فيه، وأخرى يراد إنسحاب حكم المستفتي، وثالثة يراد إنسحاب حكم المفتي، فعلى الأخير يقال: أن المجتهد الفلاني كان ممّن يجوز الأخذ بفتواه، والعمل مطابقاً لأقواله، وقد شكّ بعد الموت أنه هل يجوز أقواله أوّلاً؟ فيستصحب، كما أنه يستصحب ذلك عند تغيّر حالاته من المرض والصحة والشباب والشيب ونحوها.

وعلى الثاني: يقال: إنّه للمقلّد الفلاني كان الأخذ بفتوى المجتهد الفلاني، وشك في ذلك، فنستصحب حكمها وعلى الأول: يقال: إنّ هذه الدافعة كان حكمها الوجوب بتقوى المجتهد الفلاني، ونشك ذلك، فستصحب حكمها.

إلى غير ذلك من وجوه تقريرته، فإنّه يمكن أن يقال: أن المكتوب في الرسالة الفلانية كان جائز العمل، ـ ومع الشك بعد موته ـ نستصحب جواز العمل به بعد الموت، (مطارح الأنظار: 2: 462 ونحوه: 568 عنه منتهى الدراية: 10: 503).

وخلاصة الكلام: في بيان الأصل الإستصحابي في المقام: إنّ جواز تقليد المجتهد حد حياته كان من الأمر القطعي لهذا العامي، وبعد موته يشكّ في إرتفاع هذا الجواز، فيستصحب، ويكون المقام من قبيل الشك في رافعيّة الموجود.

ثم هذا الإستصحاب تارة يكون تنجيزياً وأخرى تعليقياً.

بيان ذلك: أمّا الأوّل فيما لو كان الجاهل قد أدرك المجتهد الميت وكان مكلفاً إلّأ أنه لم يقلّده، فإنّه بعد موته يستحب جواز تقليده تنجيزياً، لفرض كون هذا العامي كان مكلفاً بالتقليد إلّا أنه لم يقلده، وكان هذا المجتهد جامعاً شرائط المرجعية والتقليد في الفتوى.

وأمّا الثاني: فيما إذا كان الجاهل المدرك للمجتهد غير مكلف بالتكاليف الشرعية، كما لو كان صبياً أو مجنوناً في عصر المجتهد، كان استصحاب جواز تقليده تعليقياً.

وقال الشيخ الأعظم قدس سره ربّما إستدل على جواز تقليد الميت بعض من إنتصره بوجوه، أقواها: وجوه: أحدها: الإستصحاب لأنّ المجتهد في حال حياته جائز التقليد، ولا دليل على إرتفاع الجوازبالموت فيستصحب (رسالة الإجتهاد والتقليد: 60).

وأورد عليه: إنّ من مقومات الإستصحاب بقاء الموضوع، وفي المقام مع موت المجتهد يتغير الموضوع لإحتمال مدخلية وصف في عنوان الحكم كالحياة فيما نحن فيه.

وإنّما يشترط بقاء الموضوع بأوصافه المقدّمة حتى يصدق عليه (ابقاء ما كان على ما كان، فإذا علم بإرتفاع الموضوع أو شك في بقائه، لم يجرِ الإستصحاب، لعدم صدق (نقض اليقين بالشك) في الأوّل، والشك في صدقه في الثاني لأن  وأمّا في المقام من تبدل الموضوع، فإنّه موضوع جواز التقليد وحجيّة نظر المجتهد وفتواه هو بإعتبار الرأي قوام جواز التقليد وحجية فتوى المجتهد برأيه، والرأي متقوم بالحياة، لأنّ الرأي هو الإدراك القطعي أو الظني الحاصل للمجتهد من النظر في الأدلة التفصيلية، ولاشكّ أن موطن ومحل هذا الإدراك هو الذهن الذي يكون من القوى الجسمانية بشرط الحياة، فتذهب بالموت، بل بالمرض أيضاً، فمع إنتفاء الحياة ينتفي الرأي الذي هو موضوع المستصحب، فإنه مع إنتفاء الشرط ينتفي المشروط.

ثم الخطاب الشرعية منزلة فنزلة المتفاهم العرفي فبقاء الموضوع في الإستصحاب إنّما يكون بالنظر العرفي، والعرف ببابك حيث يرى الإختلاف بين رأي المجتهد الحي وبين رأيه إذا مات.

وإن كان بناء على النظر العقلي الترقي لا فرق بينهما بإعتبار أن الرأي يكون متقوماً بالنفس الإنسانية الناطقة والباقية بعد الموت، فإنّ الموت ليس بفناء بل إنتقال من حال إلى حال وإنه من توفى الروّح كاملاً كما يكون في النوم ناقصاً ومن ثم يقال الموت أخو النوم وأنه النوم الأكبر والنوم الموت الأصغر، فاروح من المجردات وأبدية البقاء وإن كانت جسمانية الحدوث فهي باقية ببقاء الله سبحانه كالظل الذي انظل، فالله الأزلي السّرمدي باق بذاته لذاته والروح باقية بالله سبحانه وتعالى، وقائماً بالعرض بقيومية الله الذاتية، فليست جسماً حتى يتطرق إليها البدار فهي روحانية البقاء وجسمانية الحدوث كما عند صدر المتلهين.

وفي المقام بعض الإشكالات وهذا ما يأتينا إن شاء الله تعالى.