أصول (25)

4 ربيع الأول

1442 هـ

عطفاً على ما سبق: في بيان أدلة من قال بوجوب تقليد الأعلم تمسكاً بالأصل أوّلاً وبالإجماع ثانياً، وبالأخبار ثالثاً، وبأقربية قول الأعلم للواقع رابعاً، إلّا أن المصنف كغيره من ناقش الوجوه الثلاثة الثانية والحال يرد على الأول أيضاً إنما يؤخذ بالأصل لولا وجود دليل ظاهري من الأدلة اللفظية من النصوص الشرعية الدالة على التخيير، فإنّ الأصل دليل من لا دليل له،  وأمّا مناقشة الوجوه الأخرى: أمّا الإجماع فيرد عليه: أوّلاً: إن الظاهر منه هو الإجماع المدركي أو محتمل المدركية على فرض اتفاق جميع الأصحاب ومثله لا يكشف عن قول المعصوم عليه السلام فلم يكن من الإجماع التعبدي، لظهور إعتماد أكثرهم وربما جميعهم على أصالة التعيين في دوران الحجيّة بين التعيين والتخيير.

وثانياً: إن هذا الإجماع المدّعي في المقام كما عن جماعة ليس من الإجماع المحصّل بالنسبة إلينا، وإنّما هو من الإجماع المنقول بغير التواتر، فيكون من الظن المطلق وليس بحجة كما هو ثابت في محلّه فلا دليل على حجيّة الإجماع المنقول بخبر الواحد أو ما كان بحكم الخبر الواحد كالمستفيض.

وثالثاً: كما يشكل بمنع الإجماع بعد تصريح جماعة بالجواز، فالمسألة خلافية سواء عند القدماء أوالمتأخرين، فإنّه ممّا يوهن الإجماع عدم تعرض الشيخ الطوسي قدس سره في عدة الأصول ولا أبو المكارم بن زهرة في الغنية شرط الأعلمية وفضيلة في بيان شرائط المفتي، فلو كان لبان.

وعليه: إذا لم يكن تحصيل الإجماع التعبّدي ممكناً، فلا عبرة بالمنقول منه، فإن حجيّة المنقول متفرعة على إمكان تحقق الإجماع المحصل هو إتفاق الأصحاب والعلماء الكاشف حدساً أو لطفاً أو دخولاً عن رأى الإمام المعصوم عليه السلام.

فالإجماع أما أن يكون مدركياً فيكون موهوناً أو منقولاً مع عدم حجيّته.

وأمّا الأخبار، فإما الطائفة الأولى ومقبولة عمر بن حنظلة بعد القول بإعتبارها في الجملة وإن كان السند ضعيفاً كما عند بعض الأعاظم المعاصرين فإنه يرد عليها:

أوّلاً: وبمنع كون باب القضاء والإفتاء واحد للفرق بينهما، وبعبارة أخرى قياس مع الفارق.

بيان ذلك: ما ورد عن الترجيح في المقبولة بالأفقهية وغيرها من الصفات هو بإعتبار الحكمين اللذين قد إختلفا في الحكم ومن الصوم لابدّ من فصل الخصومات وهو الغرض عن تشريع القضاء، ولا يلائمه مع الإختلاف الحكم بالتخيير فإنّه لا يقطع الدعوى واستنزاع بينهما بل يوجب استمرارها وبقاء النزاع لأن كل واحد يرفع إلى ما يوافق عليه ويخالف ميل الآخر وهذا يوجب بقاء التشاجر فالحل المعقول في الخصمومة الرجوع إلى أحدهما المعيّن وهو أما الفاضل والمفضول ولا ريب أن الأول أولى، وهذا بخلاف المقام، فإنّه لا مانع من كون العامي مخيراً في العمل بين الفتويين المتعارضين، فلا وجه حينئذٍ لتسريه حكم القضاء إلى الفتوى.

وثانياً: أرجع الإمام× في القضاء إلى أفقه الحكمين وهذا مختص بباب القضاء، وأمّا الإفتاء فلابدّ من الرجوع إلى أفقه جميع المجتهدين لا إلى أفقه الشخصين.

وثالثاً: دلت المقبولة على وجوب الأخذ بما يقوله أورع الحكَمين وأصدقهما في الحديث، ومن المعلوم الظاهر أن الترجيح بهما يختص بباب القضاء.

وعليه: إنّما يتم الإستدلال بالمقبولة وما بمضمونها على وجوب تقليد الأعلم شرعاً في غير محلّه، لأنّه يتوقف القياس وتنقيح المناط على التعدي من القضاء إلى الفتوى، وهوممّا لا وجه لأنّه قياس مع الفارق كما مرّ.

قال في الفصول: (والرواية المذكورة بعد تسليم سندها واردة في صورة التعارض في الكم، فلا تدلّ على عدم الإعتدد بحكم المفضول عند عدم المعارضة، فضلاً عن دلالته على عدم الإعتداد بفتواه مطلقاً، فإنّ الحكم المذكور في الرواية غير الفتوى، كما يشهد به سياستها (الفصول الغروية: 423 عند منتهى الدراية: 10: 456).

وكذلك الحال في الروايتين الأُخريتين.

وأمّا الطائفة الثانية كما في عهد مالك (اختر للحكم بين الناس أفضل رعيتك) فإنّ÷ كذلك مورده الحكم وليس الإفتاء كما هو الظاهر، كما أن الإفتاء إنما يكون بملاحظة جميع الفقهاء لا إلى أفضل الرعية وأهل البلد.

وكذلك الأمر في الروايات الدالة على ذم من يحكم مع العلم بوجود من هو أعلم منه، فإنّ÷ا واردة في الحكومة القضائية  دون الفتوى والإفتاء كما هو المطلوب.

ثم ما ورد في عهد مالك فإنّه غيرنا ظهر إلى إعتبار الأفقهية، بل المراد معنى آخر أو أوسع فلا يكون التطابق بين المدعي والدليل، فإن الإمام عليه السلام بعد هذه الجملة قال بما يدل على أن معنى الأفضلية ليس بمعنى الأفقهية فقال عليه السلام: (إختر لحكم بين الناس أفضل عليك في نفسك، ممّن لا تضيق به الأمور، ولا تحكمه الخصوم، ولا يتمادى في الزلّة، ولا يحصر من الفيء إلى الحق إذا عرفه، ولا تشرف نفسه على الطمع، ولا يكتفي بأدنى فهم دون أقصاه، وأوقعنهم في الشبهات، وأخذهم بالحجج، وأقلهم تبّرماً بمراجعة الخصم، وأصبرهم على تكشف الأمور، وأصرمهم عند اتضاح الحكم، فمن لا يزدهيه إطراء ولا يستميله إغراء (نهج البلاغة: 434: الكتاب 53 من رسائله عليه السلام).