فقه (2)

15 محرم

1441 هـ

يقع الكلام عطفاً على ما سبق: في العدول من سورة إلى أخرى فيما إذا لم يبلغ النصف من السورة الأولى، فالمسألة ذات أقوال أربعة:

الأوّل: ما ذهب إليه المشهور ومنهم المصنف من القول بالجواز ما لم يبلغ النصف، كما حكاه في مفتاح الكرامة عن السرائر وجامع الشرائع والدروس وجامع المقاصد والروض وغيرها، وقيل إنّه الأشهر، وفي الذكرى أنه مذهب الأكثر تمسكاً بالإجماعات وبرواية الدعائم ورواية الذكرى، وقد مرّ الكلام في مناقشة الإجماعات وكذلك رواية الدعائم من حيث السند والدلالة، وكذلك رواية الذكرى من حيث ضعف السند وبقي من جهة قصور الدلالة، فقد جاء في الرواية أنّه قال الإمام الصادق عليه السلام: في الرجل يريد أن يقرء السورة فيقرأ في أُخرى؟ قال: يرجع إلى التي يريد وأن بلغ النصف.

ووجه الإستدلال كما مر: إنّما ظاهرة في أنّ بلوغ النصف هو غاية حدّ الجواز، وما إذا تجاوز النصف فلا يجوز كما هو المفهوم من المنطوق.

واورد عليه: بأنّه يمكن الخدشة في الدلالة بأنّ ما ذكر لا يبلغ حدّ الإستدلال بل ولا يتجاوز حدّ الإشعار، بأن يستشعر من الرواية ذلك بأنها في مقام بيان حدّ الجواز وبيان غايته وهو بلوغ النّصف، بل ربما إشارة إلى الفرد النّادر، فإنّه قليل ما يعدل المصلي عن السورة بعد بلوغ نصفها، فإنّ الغالب والأعم في العدول هو قبل بلوغ النّصف، فلا يدلّ على أنّ هذا نهاية الحدّ الشرعي لجواز العدول، فتأمل.

ثم وقعت المعارضة بين الخبرين المزبورين في الدعائم [1]. والذكرى[2]. وبين موثقة عبيد ابن زرارة[3]. عن أبي عبد الله عليه السلام في الرّجل يريد أن يقرأ السورة فيقرأ غيرها؟ قال: له أن يرجع ما بينه وبين أن يقرء ثلثيها.

وعند التعارض وبما جاء في الأخبار العلاجيّة تقدم الموثقة لقوة سندها وصراحة دلالتها، فلا اشكال عليها إلّا أنّه أعرض عنها الأصحاب مما يوجب وصفها، لأنّ المشهور أخذنا القول الأوّل، كما هو المختار، إلّا من لا يرى الوهن في اعراض الأصحاب فيأخذ بالموثقة، ويذهب إلى القول الثاني: وهو المحكي عن كشف الغطاء (235 السطر 35 عنه شرح العروة 14: 348) من التحديد ببلوغ ثلثي السورة، تمسكاً بالموثقة وضعف قول المشهور وهو كما ترى.

وأمّا القول الثالث: ما حكى عن شيخنا الصدوق قدس سره وتبعه البعض، من تحديد الجواز في العدول بعدم بلوغ النصف فلا يجوز العدول إذا بلغ نصف السورة.

ويستدل على ذلك بما جاء في الفقه الرّضوي (فإن ذكرتها من قبل أن تقرأ نصف سورة فأرجع إلى سورة الجمعة) وإن لم تذكرها إلّا بعدما قرأت نصف سورة فامض في صلاتك).

إلّا أنّه ضعيف السند أوّلاً، وإنّه معارض ببعض النصوص الدالة على جواز العدول مع بلوغ النصف ثانياً، كصحيحة علي بن جعفر عن أخيه الإمام الكاظم عليه السلام قال: سألته عن الرجل أراد أن يقرء سورة فقرأ غيرها، هل يصلح له أن يقرء نصفها ثم يرجع إلى السورة التي أراد؟ قال: نعم ما لم تكن قل هو الله أحد أو قل يا أيها الكافرون[4]. كما لا إجماع عليه ولا مستند ظاهر آخر ثالثاً، فلا يؤخذ بهذا القول.

وأمّا القول الرابع: ما ذهب إليه صاحب الحدائق (8: 215) من جواز العدول مطلقاً من غير تحديد بحدٍ خاص، تمسكاً بإطلاق الأخبار وأنّه مقدم على ما ورد فيها من التحديد. إلّا أنّه كما يقال ما من عام إلّا وقد خصّ وما من مطلق إلّا وقد قيّد، فأخبار التحديد تقيد المطلقات.

وذهب من الاعلام المعاصرين إلى إمكان القول بما ذهب إليه صاحب الحدائق وتقويته إلّا أنّه لا من باب التمسك بالمطلقات بل من جهة أخرى ثم ما ورد من التحديد يحمل على الكراهة على إختلاف مراتبها بين النصف والثلثين، فما ما زاد على الثلثين فهو أشدّ كراهةً.

وأمّا وجه ذلك: فإنّه يبتنى على القول والإلتزام بمبنين: الأوّل: القول بجواز التبعيض بمعنى أنه يجوز أن يكتفي ببعض السورة، والثاني: جواز القرآن بين السورتين.

بيان ذلك: أن ما ورد في الموثقة من التحديد بالثلثين وكذلك ما ورد في تحديد النصف لا يمكن أن يلتزم به على نحو الوجوب أو اللزوم بنحو لا يجوزالعدول بعدهما، لأنّ الوجه في عدم الجواز لا يخلو أمّا أن يكون من جهة وجوب إتمام السورة التي بيده، والحال كان المبنى القول بجواز التبعيض وعدم وجوب الإتمام، وأمّا من جهة عدم جواز القرآن بين السورتين وإن كان الأولى ناقصة تمسكاً بإطلاق ما ورد في صحيحة منصور المتقدمة في قوله عليه السلام (لا تقرء في المكتوبة بأقل من سورة ولا بأكثر) والحال كان المبنى جواز القرآن، فلا وجه ظاهر للتحديد حينئذٍ ومن البعيد أن يحمل على التعبّد المحض، فيحمل حينئذٍ على ضرب من الكراهة والمرجوحية مع إختلاف مراتبها، فتأمل فإنّ المسألة حينئذٍ مبنوية وقابلة للنقاش في أصل المبنى.

وأمّا القول الخامس: من جواز العدول مع بلوغ النصف كما حكى ذلك في مفتاح الكرامة عن المقنعة والنهاية والمبسوط والشرايع والمعتبر والمنتهى والتذكرة والتحرير والإرشاد والبيان والألفية وكشف اللثام وغيرها كما حكاهم سيدنا الحكيم في مستمسكه: (6: 187) وقيل: أنه المشهور تمسكاً بصحيحة علي بن جعفر عن أخيه عليه السلام وخبر البزنطي عن أبي العباس كما مر، وأن وقع الإختلاف في النسخ وأنّ الرواية مقطوعة أو مسندة عن الإمام الصادق عليه السلام أو الإمام الرضا عليه السلام وأمّا القول السادس: ما يظهر من الذكرى وجامع المقاصد وهو المنع من العدول عند بلوغ النصف إذا لم يكن أراد غيرها أمّا إذا قرأ غير ما أراد جاز له العدول تمسكاً بصحيحة علي بن جعفر وعن الرجل أراد سورة فقرأ غيرها هل يصلح له أن يقرء نصفها ثم يرجع إلى السورة التي أراد؟ قال عليه السلام: نعم ما لم تكن قل هو الله أحد وقل يا أيّها الكافرون.

وخبر البزنطي كذلك والشهيد في الذكرى بعد رواية البزنطي قال: قلت هذا حسن ويحمل كلام الأصحاب والروايات على من لم يكن مريداً غير هذه السورة، لأنّه إذا قرا غير ما أراده لم يعتد به، ولهذا قال (يرجع) فظاهره تعين الرجوع[5].

وقد أشكل عليه سيدنا الحكيم بوجوه فراجع[6]، والمختار ما ذهب إليه الأشهر كما قيل أو المشهور من القول بجواز العدول ما لم يبلغ النصف وفي النصف فالأحوط عدم العدول.

ولا بأس بذكر جملة من فتاوى الأعلام في هذا الباب من كتاب (العروة الوثقى والتعليقات عليها: 7: 190).