يقع الكلام عطفاً على ما سبق: في استصحاب الأمور العقائدية وأنها على قسمين: تارة المطلوب فيها مجرد التسليم وعقد القلب فيجري الاستصحاب فيها مطلقاً في الموضوعات والأحكام وأخرى المطلوب مع الاعتقاد والمعرفة واليقين فيجري الاستصحاب في الأحكام دن الموضوعات كما مرّ تفصيل ذلك ثم طرحنا الشك في النبوة والنبوة المستصحبة وكان الوجوه المحتملة في النبوة المستصحبة ثلاثة:

الأول: أن يكون المراد منها الصفة الكمالية النفسانية التكوينية، والثاني المنصب المجعول الإلهي، والثالث شريعته المسنونة بشريعة أخرى.

وفي الأول لا يجري الاستصحاب لاحتلال ركن الشك في البقاء أو لاختلال عدم كون المستصحب وحكم شرعي أو موضوعاً لحكم شرعي.

أمّا الإحتلال الأول لأنه أما أن يكون الشك من جهة الإنحطاط وهذا لا يعقل في النبي فهو غير ممكن ذاتاً ووقوعاً كما هو المختار، أو من جهة الموت والموت لا يوجب زوال الكمال أو من مجيء نبي آخر وهو لا ينقض نبوة الأول، كما لا يترتب على النبوة المستصحبة بالمعنى الأول أثر شرعي لا حكماً ولا موضوعاً.

وأمّا المعنى الثاني للنبوة بمعنى المنصب المجعول الإلهي كولاية الفقيه فهذا قابل لجريان الاستصحاب فيه لتمامية أركانه وشرائطه ويترتب آثار النبوة على استصحابها وإن كانت الآثار عقلية كوجوب الإطاعة فإنّه حكم عقلي يترتب على الحكم الشرعي مطلقاً سواء أكان الحكم واقعياً ظاهرياً، وكما تثبت الآثار على النبوة الثابتة بالعلم والقطع كذلك تثبت على الثابتة بالأصل والإستصحاب.

ولكن قيل يلزمه الإشكال وهو لزوم الدّور.

بيان ذلك: ان جريان الاستصحاب في النبوة بالمعنى الثاني منوط بحجيته والدليل عليه سواء أكان الاستصحاب أصلاً عملياً أم دليلاً إجتهادياً من غير ناحية بقاء النبوة أي لم تكن باعتبار النبوة السابقة، إذ لو كانت النبوة منوطة ببقائها بالاستصحاب الثالث حجيّة من النبوة السابقة لزم الدور، فتوقف بقائها على الإستصحاب والاستصحاب على بقائها، فلو توقف اعتبار الاستصحاب على بقاء النبوة، وبقاء النبوة على الاستصحاب كان ذلك دوراً يوجب الامتناع عن التمسك بالاستصحاب لإثبات بقاء النبوة حينئذٍ:

وبعبارة أخرى: إن كان ثبوت وإثبات الاستصحاب سواء كان أصلاً عملياً فقاهتياً أو امارة ودليلاً إجتهادياً فإنّه يفتقر على التقديرين إلى دليل شرعي على اعتباره، فحينئذٍ لا يخلو من حالين: إن كان ذلك الدليل من الشرع السابق فإنّه يلزمه الدور لإثبات بقاء النّبوة على الاستصحاب.

وإن كان من الشريعة اللاحقة، فإنّه لا ينفع في بقاء الشريعة السابقة، لأنّ اعتبار الاستصحاب من الشريعة اللاحقة يستلزم نسخ الشريعة السابقة، وعدم الشك في بقائها حتى يجري فيه الاستصحاب فيلزم الاخلال بالركن الثاني منه أي الشك في البقاء وأنه سالبة بإنتفاء الموضوع.

هذا فيما لو كان دليل حجية الاستصحاب هو من الدليل الشرعي وأمّا إذا كان اعتبار الاستصحاب من جهة البناء العقلاني، فهذا لم يصّح الاستناد إليه إلّا بعد الامضاء من قبل الشارع إذ هو منهم بل رئيسهم، وحينئذٍ يقع الكلام في أن الشرع السابق أمضى ذلك أو الشرع اللاحق أمضاه فلا يخلو من حالين، فإن كان الأول فإنّه يلزمه الدور كما مرّ، وإن كان الثاني فإنّه يلزم النسخ وعدم الشك في البقاء واختلال الركن الثاني من الاستصحاب.

فإن قيل: يكفي في حجية الاستصحاب أنه حجة في الشريعتين فيصح جريانه حينئذٍ في النبوة بمعنى النصب الإلهي وهو المعنى الثاني.

يقال: يكون هذه الدعوى أو الاحتمال فاسد، لأنّ ثبوت حجية الاستصحاب في الشريعة اللاحقة لا يثبت اعتبار النبوة السابقة، لأنّه لو كان الدليل في اعتبار الاستصحاب عاماً وشاملاً للنبوة السابقة المشكوكة، لزم من هذا العموم عدم اعتبار نفسه أي يكون مما يصدق عليه من وجوده يلزم عدمه، لأنّ بقاء اعتبار النبوة السابقة بالاستصحاب الذي هو حجة باعتبار النبوة اللاحقة يقتضي عمومه بطلان النبوة اللاحقة، والشك في النبوة اللاحقة يستلزم الشك في صحة عموم الاستصحاب في الشريعتين كما لا يخفى.

فيبقى الاشكال في جريان الاستصحاب في المعنى الثاني للنبوة أي النصب الإلهي، وأمّا المعنى الثالث وهو بمعنى أحكام شريعة من اتصف بها، أي المقصود أحكام الشريعة في النبوة السابقة فإنّه بعد اليقين بها لو شككنا بها من جهة الشريعة اللاحقة، فإنّه ما دام لم يدل دليل على نسخها، يجري الاستصحاب فيها، لأنّه من الأثر الشرعي المترتب على المستصحب المشكوك فيه الثابت أصلاً عملياً وحكماً ظاهرياً بالإستصحاب.

وخلاصة الكلام: إنّ الإستصحاب لا يجري في المعنى الأول من النبوة وهو الكمال النفساني لأنها من الصفات التكوينية الخارجية ومن الذاتيات، وكذا لا يجري في معناها الثاني للزوم الدور، وأما بمعناه الثالث فيجري فيها بلا مانع كما مرّ تفصيله في استصحاب عدم النسخ.

هذا تمام الكلام في الشق الذي عقد التنبيه من أجله، وأمّا الشق الثاني وهو حول الحوار بين أصحاب الشريعتين فهذا ما يأتينا بيانه وتفصيله إن شاء الله تعالى.