يقع الكلام عطفاً على ما سبق: في بيان الموارد الثلاثة التي توهم أنها من الأصل المثبت، فالثالث: استصحاب البراءة من التكليف لنفي العقاب، فإنّه من الأصل المثبت.

بيان ذلك: أمّا وجه التوهم فهو ينحل إلى اشكالين:

الأول: عدم كون المستصحب حكماً ولا موضوعاً ذا حكمٍ، والحال قد ثبت أن جريان الاستصحاب إنما يكون في واحد منهما.

الثاني: أن يكون الاستصحاب من الأصل المثبت والحال ثبت عدم حجيته في الاستصحاب.

توضيح ذلك: لقد إستدلّ بعض الأصوليين على إثبات أصل البراءة بإستصحابها، إلّا أنّ الشيخ الأعظم ناقش ذلك بأنه يتوقف ذلك على حجيّة الأصل المثبت في الإستصحاب، لأنّ المستصحب فيها أحد أمور ثلاثة: أما براءة الذمة أي براءة الذمة من التكليف المشكوك فيه، أو عدم المنع عن الفعل، بأن يجوز له أن يأتي بالفعل المشكوك فيه، أو عدم استحقاق العقاب عليه لو أتى بالفعل المشكوك.

والأثر الشرعي المترتب على هذه المستصحبات أمران:

الأول: عدم ترتب العقاب على الفعل في الآخرة.

الثاني: الإذن في الفعل وإرتكابه لإستصحاب البراءة.

أمّا عدم ترتب العقاب عليه في الآخرة، فليس من الأحكام المجعولة الشرعية لتلك المستصحبات الثلاثة حتى يثبت بالاستصحاب.

وأمّا الإذن في الفعل، فهو من المقارنات لتلك المستصحبات، فذلك نظير إثبات وجود أحد الضدين بنفي الآخر بأصالة العدم^([1]).

وخلاصة الكلام: من يريد أن يستصحب البراءة المتيقنة التي كانت قبل البلوغ، فإنّه لا يصح أن يستدل به على البراءة بعد البلوغ، لكونه من الأصل المثبت، لأنّه لا أثر يترتب عليه إلّا عدم ترتب العقاب الأخروي أو الترخيص والإذن في الفعل الدنيوي، وكل منهما لا يثبت بالاستصحاب، لأنّ الأول ليس أثراً شرعياً، كما أنّ الثاني من المقارنات لتلك المستصحبات المذكورة كما مرّ.

وبعبارة أخرى نقطع كما هو ثابت بعدم خلّو الواقعة من الحكم الشرعي وعن أحد الأحكام الخمسة الواجب والحرام والمستحب والمكروه والمباح، فعدم المنع والقول بالبراءة يلازم الترخيص في العمل ويستلزمه عدم العقوبة في الآخرة، وهذا من العقل فتكون الواسطة عقلية، لا أن الترخيص في العمل من لوازمها الشرعيّة.

فإثبات الترخيص العملي بإستصحاب البراءة نظير إثبات أحد الضدين كالبياض بنفي الآخر كعدم السّواد بأصالة العدم فإنّه من الدلالة العقلية، ولا دخل للشرع فيها.

فاستصحاب البراءة سواء أكان أثره عدم ترتب العقاب الأخروي أم الترخيص في الفعل الدنيوي يكون مثبتاً وهو ليس بحجة، فلا يصّح الإستدلال بالاستصحاب على البراءة حينئذٍ، هذا ما ذهب إليه شيخنا الأعظم قدس سره ولكن تلميذه المحقق الخراساني قدس سره دفع الاشكال الأول وهو عدم كون المستصحب حكماً ولا موضوعاً ذا حكم شرعي مع وضوح اعتبار كون المستصحب واحداً منهما، بأن المستصحب في استصحاب البراءة وعدم المنع ـ ليس أجنبياً عن حكم الشرع المقدس وخارجاً عن نطاقه، لأنه كما أنّ ثبوت الحكم الشرعي كالوجوب والحرمةمنوط بالجعل الشرعي لأنّه حكمه، فكذلك نفيه أي نفي الحكم الشرعي، لأنّ بقاء العدم كما لو انتقض بالوجود إنّما هو بيد الشارع المقدس وتحت قدرته.

ولولا هذا المعنى للزم خروج الأحكام الشرعية عن كونها أفعالاً اختيارية للشارع، فإنّ الشارع قادر مختار أن شاء فعل وإن شاء ترك، وحينئذٍ فكما يصحّ إستصحاب وجود الحكم على تقدير الشك في بقائه، كذلك يصح استصحاب عدمه لو شك في انتقاضه بالوجود.

وعليه: فلا فرق في المستصحب بين أن يكون حكماً وجودياً وحكماً عدميّاً وبهذا يندفع الاشكال على استصحاب البراءة من ناحية عدم كون المستصحب أثراً شرعياً ولا موضوعاً لأثر شرعي.

وخلاصة الخلاف بين الأستاذ وتلميذه يرجع إلى ما عندهم من البدني في الجعل الشرعي، فإنّ الشيخ الأعظم يرىعدم مجعولية عدم التكليف، لأنّ التكليف إنشاء حكم وفعل وحكمه بعدم الوجوب أو عدم الحرمة ليس اشد منه وجعلاً، بل هو من الأخبار حقيقيةً كما أنّه لا أثر مجعول له، ومن الواضح أنّ مورد الاستصحاب هو خصوص المجعول الشرعي أو موضوعه، وهذا ما أشار إليه في ثاني تنبيهات قاعدة (لا ضرر).

ولكن المحقق قدس سره يدّعي أن عدم الحكم كعدم الوجوب وعدم الحرمة وإن لم يصدق عليه الحكم عرفاً ولغةً، لظهور الحكم في الإنشائي والوجودي، ولكن هذا العدم مجعول أيضاً، وهذا ما صرّح به في التنبيه العاشر من تنبيهات الاستصحاب وكذا في حاشية الرسائل (ص: 125 عند المنتهى: 9: 81).

ولمّا كان عدم الحكم مجعولاً شرعياً بنحو من الأنحاء، صحّ جريان الاستصحاب فيه وليس من المثبت إذ، ويوجب ترتب الأثر عليه، وهو عدم استحقاق العقوبة على المخالفة، فتأمل.