عطفاً على ما سبق: في أخذ الأجرة على الأذان، فإنّه ذهب المشهور ومنهم المصنف إلى عدم جواز أخذ الأجرة على أذان الصلاة ولو أتى بالأذان بقصد الأجرة بطل وعليه الإعادة قربة إلى الله تعالى، وأمّا أذان الإعلام فقيل بجواز أخذ الأجرة عليه إلّا أنّه فيه اشكال، ولا بأس بالإرتزاق من بيت المال.

والكلام يقع في مقامات: الأول: في عدم جواز أخذ الأجرة على أذان الصلاة المعبّر عنه بالأذان الإعظامي، فقد مرّ الكلام فيه أنّه تارة يبحث عنه من جهة مقتضى القاعدة فكان جواز أخذ الأجرة على قول، وأخرى من جهة النصوص الواردة في الباب، فإنّها تضمّنت في جملة منها المنع عن أخذ الأجرة، ومن ثمّ من أجلها نخرج عن مقتضى القاعدة.

فمنها: موثقة السكوني.

عن جعفر عن أبيه عن علي عليه السلام قال: آخر ما فارقت عليه جيب قلبي أن قال: يا علي إذا صليت فصّل صلاة أضعف من خلفك، ولا تتخذّن مؤذناً يأخذ على أذانه أجراً^([1]).

وجه الإستدلال: أنّ النبي الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم نهى عن يتخذ مؤذناً يأخذ الأجرة على أذانه، جمعن حرمة أخذ الأجرة أولاً وهذا من الحكم التكليفي بالنسبة إلى المؤذن نفسه، كما يوجب بطلان الأذان وهذا من الحكم الوضعي، فظاهر النهي عدم الجواز تكليفاً ووضعاً، فتأمل.

وقيل: في مقام الاشكال بضعف السند يكون السكوني من قضاة العامّة، ولكن يكفي في اعتبار خبره كونه من الثقات فوثقه الشيخ في العّدة^([2]).

وكذلك الاشكال في النوفلي إلّا أنّه وارد في تفسير القمي مما يدل على وثاقته بالتوثيق العام لما جاء في مقدمة التفسير، وقيل في مقام الاشكال بقصور الدلالة أيضاً، فإنّ معنى الإتخاذ كما هو الظاهر أن يكون على نحو الإستمرار والدوام، فلا يشمل الإستيجار في بعض الأحيان، لكن أجيب عنه بأنّه نجزم بعدم الفرق بين الدوام والحين في المنع من جهة وحدة المناط فإنّ المعتبر في الأذان ومنع أخذ الأجرة عليه أن يكون لنفسه أوّلاً وأن يكون مجاناً، ولا فرق في هذا الأمر بين الوحدة والكثرة فتأمل.

وقيل أيضاً في مقام الإشكال: إنّ إقتران النهي عن إتخاذ المؤذن بالأجرة مع الأمر بصلاة الأضعف ـ أي ضعف المأمومين ـ المحمول على الإستحباب يستوجب من باب وحدة السياق أن يحمل النهي على النهي التنزيهي الدّالة على الكراهة وليس التحريمي الدال على الحرمة وعدم الجواز.

وأجيب عنه: أولاً لم تكن وحدة السياق من القرائن الدالة على وحدة الحكم. وثانياً: مع التسليم والقول بوحدة السياق ووحدة الحكم، فإنّه لا تنطبق على ما نحن فيه، فيما كان كلّ من الفقرتين جملة مستقلة، وإنّما يصدق فيما إذا كان أحدهما معطوفاً على الآخر، فعليه لا مانع من التفكيك بين الجملتين وبين الحكمين، بعدما يثبت من الخارج إرادة الإستحباب من الأمر كما في الفقرة الأولى (إذا صليت فصّل صلاة أضعف من خلفك) ولم تثبت ولو بقرينة على إرادة الكراهة من النهي، فحينئذٍ لابدّ من الأخذ بظاهر النهي من حمله على التحريم، فتأمل.

ومنها: مرسلة الصدوق

قال: أتى رجل أمير المؤمنين عليه السلام فقال يا أمير المؤمنين والله إني لاُحبّك، فقال له: ولكني أبغضك، قال: ولِمَ؟ قال: لأنّك تبغي في الأذان كسباً، وتأخذ على تعليم القرآن أجراً^([3]).

وجه الإستدلال: أن بغض أمير المؤمنين لعمل من قال له إني أُحبّك بأنّه يبغي من أذانه الكسب والإكتساب أي يأخذ الأجرة عليه ممّا يدل على مبغوضية ذلك وما فيه المفسدة مما يدل على الحرمة.

ولكن أورد عليها سنداً ودلالةً:

أمّا السند فلضعفه بالإرسال وأجيب عنه، بأنّه وإن كان في الفقيه وباسناد الشيخ الصدوق عليه الرحمة ضعيفاً إلّا أنّ الشيخ الطوسي قدس سره رواها بعينها مع فرق يسير لا يضّر بالمراد بسند معتبر عن زيد بن علي عن أبيه عن آبائه عن علي عليه السلام ذكرها صاحب الوسائل في الباب الثلاثين من أبواب ما يكتسب به، الحديث الأول كما في التهذيب: 6: 376، وبذلك يكون السّند تاماً.

وأمّا الدلالة، فقيل غير ظاهرة في تحريم أخذ الأجرة، لأنّ المنع عن إتخاذ المؤذن الذي يأخذ الأجرة أعم من حرمة ذلك.

وإبتغاء الكسب يشمل الأذان بداعي الإرتزاق من بيت المال وهو يجوز بلا اشكال، كإرتزاق القاضي والوالي ونحوهما، مما يعود إلى مصالح المسلمين وأورد عليه: أنّها غير شاملة للإرتزاق فإنّه من البديهي لا يعد أخذ الأجرة على الأذان كسباً، لأنّ الكسب متقوم بالمبادلة والمعاوضة كما في البيع والشراء، ولكن المرتزق من بيت مال المسلمين لا يأخذ الرزق في مقابل عمله، بل إنّما يبذل اليه من باب أن مصرف بيت ال مال هو حفظ مصالح المسلمين، والمؤذن حينئذٍ كالقاضي والوالي من مصاديق المصارف من بيت المال وكيس أخذ المال من بيت المال هو في مقابل أذانه حتى يصدق عليه أن قد أخذ الأجرة عليه ممّا يدل على تحريمه مبغوضاً للمعصوم عليه السلام، فلا يطلق الكاسب على المرتزق من بيت المال بوجه يستوجب وهناً في الدلالة، فلا قصور في هاتين الروايتين سنداً ودلالة، فتدلان على حرمة أخذ الأجرة على الأذان، ثم مقتضى إحلافهما عدم الفرق بين الأذان الإعظامي للصلاة والأذان الإعلامي.

ويؤيد ذلك ما ورد في رواية دعائم الإسلام عن أمير المؤمنين علي عليه السلام أنه قال: من السّحت أجر المؤذن^([4]).

وجه الإستدلال: أنها واضحة الدلالة على المنع، فإنّ السحت هو الحرام الشديد، إلّا أنّ ضعف السّند بالإرسال يمنع عن الإستدلال بها، كما قيل، ولم يجبر سنده بعمل الأصحاب، ومجرد كونها موافقة لفتوى المشهور لا يكفي في جبر السّند، فتأمل.

ثم قال المصنف قدس سره: (وأمّا أذان الاعلام فقد يقال بجواز أخذ الأجرة عليه) كما نسب ذلك إلى الشهيد في الذكرى (3: 223) والسيد كما حكاه عنه في المختلف: 2: 148 وصاحب المدارك (3: 276) والعلامة المجلسي في بحاره (81: 161) وغيرهم وربما الوجه في ذلك لعدم كونه من العبادة فيفترق عن أذان الصلاة ولكن المصنف قال (لكنه مشكل) وربما الوجه إطلاق النصوص كما مر أو لإحتمال صلاحية ما حكي من الإجماع وغيره بأن يكون دليلاً على المنع مطلقاً من كل وجه.