عطفاً على ما سبق: في إستحباب إستقبال القبلة عند أداء الأذان والإقامة وهذا ما عليه تسالم الأصحاب وحكاية الإجماع المدعوم بمرسلة دعائم الإسلام كما مرّ، وفي المقام تنبيهات:

الأول: ربّما يستفاد من بعض النصوص وجوب الإستقبال حال الشهادتين، كما في صحيحة محمد بن مسلم عن أحدهما÷:

قال: سألته عن الرّجل يؤذن وهو يمشي، أو على ظهر دابته أو على غير طهور، فقال: نعم إذا كان التشهد مستقبل القبلة فلا بأس^([1]).

وجه الإستدلال: أنّه حصر عدم البأس في عدم التشهد ومفهومه أنّه فيه يكون البأس ممّا يدل على وجوب الإستقبال حينئذٍ وكصحيحة الحلبي.

عن أبي عبد الله عليه السلام قالك قلت له: يؤذَن الرّجل وهو على غير القبلة، قال: إذا كان التشهد مستقبل القبلة فلا بأس^([2]).

وجه الإستدلال: كما في السابق فإنّ مقتضى مفهوم الشرط ثبوت البأس إذا لم يكن مستقبلاً حال التشهد مما يدل على الوجوب.

ولكن كما قيل: لابدّ من حملهما على الأفضليّة في مقام الإستحباب وليس على الوجوب.

بيان ذلك: لقد مرّ في صحيحة زرارة المفصّلة بين الأذان والاقامة وفيها تصريح بالنسبة إلى الأذان أنه يجوز بأي نحو كان في قوله عليه السلام (أينما توجهت) فظاهره عدم اعتبار الإستقبال في شيء من فصول الأذان.

لا يقال: جاز حملها (أينما توجهت) على ما عدا التشهد جمعاً بين الأخبار.

فإنّه يقال: هذا يتنافى مع المقابلة بين الأذان وبين الإقامة، فظاهرها أن طرف المقابلة تمام الأذان بجميع فصوله في قبال تمام الإقامة بجميع فصولها لا خصوص ما عدا التشهد، وإلّا كان الأولى حينئذٍ التقابل بين فصول الأذان أنفسها بأنّه في التشهد يستقبل دون غيره، لا بينه وبين الإقامة، فتأمل.

فجمعاً بين صحيحة زرارة المفصلّة بين الأذان والإقامة والتقابل بينهما بأنه في الإقامة يستقبل دون الأذان فيأتي بفصوله أينما توجّه وبين ما دلّ على أنّ التشهد يكون في حال الإستقبال في صحيحة محمد بن مسلم وصحيحة الحلبي أن يكون المراد بيان أفضلية مراعاة الإستقبال في التشهد وأنّه فيه أكثر تأكيداً من بقية الفصول.

وربّما يقال: أنّ المستفاد من صحيحة محمد بن مسلم وصحيحة الحلبي إستحباب الإستقبال حال الأذان، فإنّ المتفاهم من جواب الإمام عليه السلام أن أقل ما يدرك من الإستحباب أن يكون تشهد المؤذن مستقبل القبلة، وما ورد من التفصيل في صحيحة زرارة يحمل على التهيئة في الإقامة بمعنى التهيؤ بالإستقبال في تمام الإقامة فيحمل على الإستحباب المؤكد في الإقامة وغير المؤكد في الأذان، وفي خصوص الأذان فإنّ الإستقبال في حال التشهد أكثر تأكيداً وكأنما بحكم ما في فصول الإقامة من إستحبابية الإستقبال مؤكداً.

الثاني: قيل أنّ مجرد دعوى الإجماع بل حتى دعوى عدم الخلاف وثبوت الإتفاق لا يمكن أن يعتمد عليهما في مثل هذه المسألة، لإحتمال كون اعتماد الاعلام جلّا وبعضاً على خبر دعائم الإسلام بضميمة ما يقال من التّسامح في أدلة السّنن أو تمسكاً ما استدل به صاحب الجواهر من إطلاق إستحباب الجلوس مستقبلاً للقبلة، ولكن لو قيل بعدم تمامية مانبرأ عليه من قاعدة التسامح في أدلة السنن بما ذكر من المعاني أولاً، وضعف خبر الدعائم سنداً ثانياً، وعدم دلالة المرسلة على إستحباب الأذان مستقبلاً، فإنّ غاية مدلولها إستحباب الجلوس في كل مجلس إلى القبلة وهذا ممّا يدل على الإستحباب النفسي للجلوس نحو القبلة، لا لبيان استحباب الإستقبال في الأذان كما هو المقصود في المقام ثالثاً، فإنّه يشكل الحكم باستحباب الإستقبال في ناحية الأذان ولا سيما مع قوله عليه السلام في صحيحة زرارة عن أبي جعفر عليه السلام (تؤذن وأنت على غير وضوء في ثوب واحد) قائماً أو قاعداً وأينما توجهت، ولكن إذا أقمت فعلى وضوء متهيئاً للصلاة) ^([3]). فتأمل، فربّما يقال أن مستند الإستحباب هو تسالم الأصحاب ولا يعتمد على خبر الدعائم لأنّه فيه في المحيلات الالتفات يميناً وشمالاً، وهذا ما لم يذكر في كلمات الأصحاب، فلو كان المستند خبر الدعائم لذكر الإلتفات ولو في كلمات جمع منهم، فتأمل.

الثالث: يستحب الاستقبال كذلك في الإقامة كما هو المتسالم عليه عند الأصحاب تمسكاً بوجوه:

الأول: بخبر الدعائم، إلّا أنّه كان قابلاً للنقاش في السَند لإرساله وفي الدلالة لقصورها.

الثاني: تمسكاً بخبر سليمان بن صالح.

عن أبي عبد الله عليه السلام: وليتمكن في الإقامة كما يتمكن في الصلاة، فإذا أخذ في الإقامة فهو في صلاة^([4]).

الثالث: خبر يونس الشيباني.

عن أبي عبد الله عليه السلام: إذا أقمت الصلاة فأقم مترسلاً فإنّك في الصلاة^([5]).

الرابع: خبر أبي هارون المكفوف قال: قال أبو عبد الله عليه السلام : يا أبا هارون الإقامة من الصلاة فإذا أقمت فلا تتكلّم ولا تؤم بيدك^([6]).

وجه الإستدلال: فإن دلت على أنّ الإقامة منزلته منزلة الصلاة، وكأنما هي بحكمها، أو كما يقال في الحكومة من توسعة دائرة الصلاة حتى تعّم الإقامة، ومن شرائط الصلاة إستقبال القبلة فكذلك الإقامة.

لا يقال أنّ المراد من التنزيل أي تنزيل الإقامة منزلة الصلاة هو خصوص ما ورد في الأخبار من الترسل والتمكن دون الجهات الأخرى كالإستقبال.

فإنّه يقال: أولاً: هذا يتنافى مع إطلاق التنزيل.

وثانياً: مخالف لما في ذيل خبر يونس الشيباني لما فيه من استشكال السائل في تجويز المشي في الإقامة دون الصلاة، فأجابه الإمام عليه السلام بجواز ذلك في الصلاة، فلو لم يدل على عموم التنزيل وإطلاقه لم يكن وجهن الاستشكال السائل، وربما لهذا المعنى ذهب شيخنا المفيد قدس سره وكذلك سيدنا المرتضى قدس سره وغيرهما إلى وجوب الاستقبال في الإقامة كما اختاره صاحب الحدائق، ولكن ما ذكرت بل للنقاش لقصور السّند الدلالة وهذا ما يأتينا تفصيله ان شاء الله تعالى.