التنبيه الخامس^([1]).

إستصحاب الأمور التدريجيّة

قال المصنف قدس سره: (لا فرق في المتيقن بين أن يكون من الأمور القارة أو التدريجيّة..).

يا ترى هل جريان الإستصحاب يختص بالمتيقن القار أو حجة كذلك في المتيقن التدريجي، فمن الأعلام من أشكل على اعتباره في الأمور التدريجيّة.

وقال شيخنا الأعظم عند تعرّض لهذا الموضوع في الأمر الثاني بعد أن نبّه في أول كلامه على اشكال المستشكل: (أنّه قد عُلم من تعريف الاستصحاب وأدلته: أن مورده الشك في البقاء، وهو وجود ما كان موجوداً في الزمان السابق، ويترتب عليه عدم جريان الاستصحاب في نفس الزمان، ولا في الزماني الذي لا استقرار لوجوده، بل يتجدّد شيئاً فشيئاًعلى التدريج وكذا في المستقر الذي يتخذ قيداً له^([2]).

ولا يخفى أن المراد من الأمور القارّة هي ما تجتمع أجزاؤه بعضها مع بعض في الوجود زماناً من غير فرق بين الجواهر كزيد وعمرو وغيرهما من المصاديق من نوع الإنسان فيجتمعون في زمان واحد، وبين الأعراض كالعلم والعدالة والسواد والبياض.

وأمّا المراد  من الأمور التدريجية غير القارة وغير الثانية وهي ما لا تجتمع أجزاؤه في الزمان، فإنّه لا يوجد جزء منه إلّا بعد إنعدام الجزء الذي قبله، كنفس الزمان فإنّ ساعات الليل والنهار مثلاً توجد تدريجاً بنحو يتوقف وجود الساعة الثانية على انقضاء وإنعدام الساعة الأولى، وكالزماني أي ما يقع في زمان كجريان الماء والتكلّم والكتابة ونحو ذلك من الأمور المتدرجة في الوجود.

وبعبارة أخرى يقع الكلام في جريان الاستصحاب في التدريجيات كما كانت في القارات في مقامين الأول: في الزمان والثاني في غير الزمان من التدريجيّات كالحركة.

وقد أشكل البعض على جريان الاستصحاب في التدريجيات، وخلاصته: أنه إنّما يجري الاستصحاب مع ركنيه: اليقين السابق والشك اللاحق ومع اختلال أحدهما يبطل الاستصحاب، وفي المقام يختل الركن الثاني وهو الشك في البقاء في الأمور التدريجيّة، لأنّ الجزء المعلوم الوجود في الزمان الأول كالساعة الأولى قد إنعدم قطعاً، فلا شكلّ في بقائه حتى يجري فيه الاستصحاب والجزء الثاني مشكوك الحدوث، ويقتضي اصالة العدم فحكم بعدمه، فلا شك في البقاء فلا يجري الاستصحاب.

ولا يخفى أنّ منشأ الإشكال في عدم جريان الاستصحاب في الأمور التدريجيّة هو ملاحظة كل واحد من أجزاء التدريجي شيئاً مستقلا، ومن الواضح أنّ ملاحظة كل جزء مستقل بحاله يوجب الاشكال بانصرامه وانعدامه في الأول عند وجود الثاني.

وبعبارة أخرى بـ إنما نجري الاستصحاب مع إتحاد القضية المشكوك مع القضية المتيقنة في الموضوع في استصحاب التدريجيات لا اتحاد في الزمان، لأنّ حقيقة الوجود التدريجي كالزمان متقوّمة بالأخذ (لترك أي بوجود جزء منه بعد انعدام الجزء الأول، وهكذا فلا يجتمع جزاؤه في الوجود، ومن الواضح مغايرة أحد الجزئين للآخر، فإنّ اليقين قد تعلّق بوجود في حدّ معين، وقد زال وانعدم، والشك تعلّق بحدوث كون في حدّ آخر، وبعد فلا مجال لجريان الاستصحاب عندئذٍ.

فالزمان موجود واحد مستمر إلّا أنه متقوم بالانصرام ويعبر عنه بغير القار أي زمان تدريجي غير قار، فنقول بجريان فيه لوجود المقتضي وعدم المانع، فإنّ الاشكال لا يرد لوحدة القضيتين: المتيقنة والمشكوكة سواء بالدقة العقلية أو التسامح العرفي، فإذا شككنا في بقاء النهار مثلاً، فإنّه نجري استصحاب وجوده من دون إشكال، حتى لو قيل أنّ الزمان مركب من الأنات الصغيرة المنصرمة، كما نظير ذلك في تركب الأجسام من الأجرام الصغيرة غير القابلة للتجزئة، فلا مانع من جريان الاستصحاب فيها أيضاً لوحدة القضية المتيقنة والقضية المشكوك بنظر العرف، ولا يخفى أنّ المدار في جريان الاستصحاب على وحدة الموضوع بين القضيتين إنّما هو بنظر العرف لا بالدقة العقلية، لأنّ الخطابات الشرعية منزلة منزلة المتفاهم العرفي.

فبالاستصحاب يوجب ترتب الآثار الشرعيّة المترتبة على نفس الزّمان، وكذلك الآثار المترتبة على عدم ضدّه كحواز الأكل والشرب في ليالي شهر رمضان، فإنّه يترتب على عدم طلوع الفجر كما في الآية الكريمة ﴿وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمْ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنْ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ﴾ (البقرة: 187) فإذا شك في طلوع الفجر فلا اشكال في جريان استصحاب عدم الطلوع، حتى على القول بعدم جريان الاستصحاب في الزمان، وللحديث صفة إن شاء الله تعالى.