عطفاً على ما سبق: في معنى التفريق والجمع بين الصلاتين، فالمسألة ذات أقوال: والمختار يرجع في تشخيص وتحديد ذلك إلى العرف، ومن ثمّ لا يعدّ مثل التعبّديات بل النوافل من التفريق، وقيل التفريق أن يقع كل صلاة في وقتها وفضيلتها، وقد نوقش هذا القول بالنّقص، والقول الثالث: إنّ التفريق يصدق مع إتيان النّافلة بين الصلاتين تمسكاً بروايات قابلة للنقاش سنداً ودلالة.

بيان ذلك من قال بصدق تفريق لو كان بين الصلاتين نافلة فقد استدل على ذلك بروايات ثلاث:

الأولى: ما رواه الكليني قدس سره باسناده عن محمد بن حكيم.

قال: سمعت أبا الحسن عليه السلام يقول: الجمع بين الصلاتين إذا لم يكن بينهما تطوّع، فإذا كان بينهما تطوع فلا جمع.

أورد على الإستدلال بها: أولاً بضعف السند، وذلك من جهة (محمد بن موسى) الواقع في السند، فإنّه مردد بين الثقة الملقب بـ (خوراء) والضعيف الملقب بالهمداني، كما أنّ محمد بن حكيم لم يوثق.

وثانياً: بقصور الدلالة فإنّ الظاهر من الخبر هو قدح والتطوع في الجمع أي لا تتنفل عند الجمع بين الصلاتين، لا أن المراد من الجمع عدم التطوع ولو كان ذلك مع الفصل الطويل حتى يدل على أنّه مع التطوع بصدق التفريق، كما هو مقتضى ظاهر من قال بهذا القول، ولا يضرّ إذا قيل: بالإلتزام بأن التطوع يتنافى مع الجمع، فإنّه يتنافى مع مفهوم الجمع عرفاً، كما ظاهر النصوص المتقدمة يدل على ذلك كصحيحة ابن سنان في يوم عرفة، وصحيحة حريز في السلوس، بل هو صريح صحيحة منصور التي وردت في المزدلفة ونهت عن التطوع بين العشائين وأنه خلاف ما فعل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.

ولكن قيل: بمعارضة هذه النصوص بطائفة أخرى مما دلت على جواز اتيان النافلة.

منها: صحيحة أبان بن تغلب:

قال: صليت خلف أبي عبد الله عليه السلام المغرب بالمزدلفة، فلما انصرف أقام الصلاة، فصلّى العشاء الآخرة ولم يركع بينهما، ثم صليت بعد ذلك بسنة فصلّى المغرب ثم قام فتنفل بأربع ركعات، ثم أقام فصلى العشاء الآخرة^([1]).

وأجيب عنه: لا تصلح للمعارضة لإجمالها، فإنّها حكاية وليست رواية حتى يقال بظهورها.

ومنها: خبر عبد الله بن سنان.

قال: شهدت صلاة المغرب ليلة مغيرة في مسجد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فحين كان قريباً من الشفق نادوا وأقاموا الصلاة، فصلّوا المغرب ثم أمهلوا الناس حتى صلوا ركعتين، ثم قام المنادي في مكانه في المسجد فأقام الصلاة فصّلوا العشاء، ثم انصرف الناس إلى منازلهم، فسألت أبا عبد الله عليه السلام عن ذلك، فقال عليه السلام: نعم قد كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عمل بهذا^([2]).

وأورد عليه: بعدم ظهور أن ترك الأذان كان من جهة تحقق الجمع بين الصلاتين، حتى يدل على عدم قدح النافلة فيه لأنه يجوز أن يكون ذلك من أجل المطر أو الإستعجال أو غيرهما، مما كان سبباً لترك الأذان للغرب ايضاً.

ومنها: صحيحة أبي عبيدة:

قال: سمعت أبا جعفر عليه السلام يقول: كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إذا كانت ليلة مظلمة، وريح ومطر صلّى المغرب ثم مكث قدر ما يتنفل الناس، ثم أقام مؤذنه، ثم صلّى العشاء الآخرة ثم انصرفوا^([3]).

وجه الإستدلال: أولاً: المراد من الإقامة ما يعمّ الاذان في مقام الاستعمال، فأقام مؤذنه أي اذن مؤذنه للصلاة الثانية، فتعارض ما دل على اسقاط الآذان عند الجمع وذلك بترك التنفل.

وثانياً: كون المراد من قوله عليه السلام (قدر ما يتنفل الناس) أي مقداراً من الزمان بلا تنفل.

وثالثاً:كونه صلى الله عليه وآله وسلم لم يتنفل والعبرة بصلاته لا بصلاة الناس.

وأورد عليه: ما ذكره من هذه الوجوه فهو بعيد عن ظهور الخبر، كما أن العبرة بصلاته دون صلاة الناس فهذا أول الكلام، فإنّه، نيابة في الآذان.

الثانية: رواية محمد بن الحكيم أيضاً عن أبي الحسن عليه السلام قال: سمعته يقول: إذا جمعت بين الصلاتين فلا تطوع بينهما^([4]).

وأورد على الإستدلال بها ما أورد على الأولى في مناقشة اسند والدلالة، فإنّ السند ضعيف بمحمد بن حليم كما في السند سلمة بن الخطاب فقد ضعفه النجاشي صريحاً (رجال النجاشي: 187 / 498) وكذلك العلامة في الخلاصة (354 / 1402) وابن الغضائري في مجمع الرجال (3: 152).

الثالثة: موثقة الحسين بن علوان.

عن جعفر بن محمد عليه السلام قال:رأيت أبي وجدّي القاسم بن محمد يجمعان من الأئمة المغرب والعشاء في الليلة المطيرة، ولا يصبليان بينهما شيئاً^([5]).

وأورد عليه: بظهور الإجمال في الخبر، لأنّ مفاده ليس إلّا أنّه عليه السلام هو وجدّه قد جمعا بين الصلاتين في ليلة مطيرة، ولم يتنقلا بينهما، وأما أن التنفل هل هو قادح في الجمع أو لا، فهذا ممّا لا يدل ع ليه الخبر، كما أنها حكاية فعل مجمل العنوان.

وأخيراً: لم يدل دليل على أنّ الإتيان بالنافلة بين الصلاتين يستوجب صدق التفريق المنافي للجمع، ومن ثم لم يسقط الآذان للثانية: ومن ذلك تقف على ما قاله المصنف قدس سره (بل لا يحصل بمجرد فعل النافلة) لما في أدلة القائل به من الاشكال والمناقشة في السند  والدلالة.

والمختار كما مرّ في صدق الجمع والتفريق ما يراه العرف، والعرف ببابك، فإذا كان الفصل طويلاً بنحو يصدق منه العرف أنه فرق بين الصلاتين فقد تحقق التفريق كما لو اشتغل بين الصلاتين بأمر لا علاقة له بالصلاة، وأما مجرد إتيان النافلة من غير تطويل أو الاشتغال بالتعقيبات وتسبيح مولاتنا الزهراء عليها السلام أو بما يرتبط بالصلاة لصلاة الاحتياط وسجدتي السهو ونحو ذلك فهذا مما لا يوجب عدم تحقق الجمع.