يقع الكلام عطفاً ما سبق: في الاشكالات الواردة على تفصيل الفاضل النراقي في جريان الاستصحاب، فمنها:

أنه قد مرّ في مثال وطئ الحائض بعد إنقطاع الدم وقبل الاغتسال أنه يستصحب عدم جعل الحرمة، فإنّه عند عدم الدّم لم يحرم الوطي من دون ملاحظة قبل الإغتسال أو بعده، فمع الشك قبل الاغتسال يستصحب عدم الحرمة في الجعل الأوّل، فقيل أن استصحاب عدم الجعل معارض بمثله وفي رتبته، فإنّ استصحاب عدم جعل الحرمة في المثال معارض باستصحاب عدم جعل الحليّة أي حلية الوطي، وذلك لوجود العلم الإجمالي بجعل أحدهما: الحرمة أو الحلية في الشريعة المقدسة، فإذا تعارضا تساقطاً، ويبقى الجعل الثاني باعتبار مجعوله وهي الحرمة حرمة الوطي عند رؤية الدم بلا معارض، فعند الشك بعد الإنقطاع وقبل الإغتسال يقال بحرمة الوطي استصحاباً لحرمته عند رؤية الدّم.

وأجيب عن الإشكال بوجوه:

الأوّل: أن استصحاب عدم جعل الحلية مما لا وجه ولا مجال له، لأنّه كما في الماء القليل النجس المتمم بالكر أن الحلية والطهارة والرخصة كانت متيقنة في صدر الإسلام، فالأصل الإباحة والرخصة والحلية إلّا أنّ الأحكام الإلزامية الآمرة والناهية إنّما شرّعت على التدريج، فجميع الأشياء كان على الإباحة أي الترخيص في العمل والإمضاء عليه من قبل الشارع.

ويدل على هذا المعنى ما ورد في النصوص كقوله عليه السلام (اسكتوا عمّا سكتا  الله) ^([1])، وهذا يعني الإباحة والرخصة فيما لم يعلم فيه الإلزام الأمري أو النّهي.

وكذلك قوله عليه السلام: (كل ما حجب الله علمه عن العباد فهو موضوع عنهم) ^([2]).

نعم خرج عن هذا الترخيص والإباحة العامة ما لم يعلم الإلزام بعض الأحكام الشرعية على أنها لا تختص بشريعة بل هي جارية في كل الشرايع بل من آدم وإلى الخاتم عليهم السلام ويعّد ذلك بالأصابع، وربما خمس موارد وإنّما شرعت لحفظ النظام الإجتماعي، وسلامته مثل حرمة قتل النفس وحرمة أكل أموال الناس، وحرمة الزنا، وقد ورد في بعض النصوص أنّ الخمر ممّا حرّمت في جميع الشرايع^([3]).

والخلاصة: وطي الحائض في المثال المزبور قبل نزول قوله تعالى ﴿فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ﴾ (البقرة: 222) كان مرخصاً فيه، فلا مجال حينئذٍ لاستصحاب عدم جعل الحلية.

أقول: وهذا يتّم لو قيل سكوت الله عن الحكم الإلزامي ممّأ يدل على رخصته وإباحته، فتأمل.

الوجه الثاني: أن يقال بعدم وجود المعارضة بين استصحاب عدم جعل الحرمة وعدم جعل الحليّة، لأنه يمكن أن يتعبّد شرعاً بكليهما الالتزام بعدم الجعل أصلاً لا جعل الحرمة ولا جعل الحلية، وذلك لأن قوام التعارض بين الأصلين أصالة استصحاب عدم جعل الحرمة وأصالة استصحاب عدم جعل الحلية كما في المقام وغيره إنما يكون بأحد أمرين على سبيل منع الخلو أي لا يخلو من أحد أمرين، ويمكن اجتماعهما.

بيان ذلك: أن التعارض بين الأصلين أمّا أن يكون من جهة التنافي والتعارض بين مفاد الأصلين في نفسه بما مع قطع النظر عن لزوم المخالفة القطعية العلمية، لوجود العلم الإجمالي بجعل أحدهما، فلم تركهما فإنّه يلزمه المخالفة القطعية العملية، فمع قطع النظر إلى هذا المعنى بل التنافي إنما هو من جهة مفاد الأصلين في نفسه، كما إذا كان مدلول أحد الأصلين الإباحة، ومدلول الآخر الحرمة، أو كان مدلول أحدهما الإباحة والآخر عدمها، فبين الأصلين في ذاتهما تعارض ولا يصح التعبد بالمتنافيين في أنفسهما، فيقع التعارض بينهما ثم التساقط من باب إذا تعارضا تساقطا، لعدم إمكان شمول دليل الحجيّة حجية الاستصحاب لكليهما أولاً، وشموله لأحدهما ترجيح بلا مرجح ثانياً.

وإمّا أن يكون التعارض بين الأصلين أنه لو قيل لهما معاً للزم المخالفة القطعية العملية حتى لو لم يكن التنافي بين المدلولين.

كما إذا علمنا بنجاسة أحد الإنائين، فإنّ جريان أصالة الطهارة في كل واحد من الإنائين وإن لم يكن بنفسه منافياً لجريان الطهارة في الآخر، إلّا أنّ القول والإلتزام بكليهما يلزمه المخالفة العملية القطعية، ويجري هذا في سائر مقامات العلم الإجمالي بالتكليف الإلزامي.

فقوام التعارض بين الأصلين إنّما يكون بأحد هذين الأمرين عملي سبيل منع الخلو، وربّما يجتمعان، فإنّه كلا  الأمرين مفقود وفي المقام (عدم حرمة الوطي وعدم حليّة الوطي) لعدم المنافاة بين أصالة عدم جعل الحلية وأصالة عدم جعل الحرمة، لأنّ الحلية والحرمة من المتضادات، فلا يلزم من التعبّد بكلا الأصلين إلّا إرتفاع الضدّين وهي الحلية الحرمة، إرتفاع الضدين كالسواد والبياض في اللون الأحمر مثلاً فما لا محذور فيه، فإن إجتماع الضدين محال دون ارتفاعهما بخلاف التناقض، فإن إرتفاع النقيضين محال كاجتماعهما، فلا مانع في المقام أن نتعبد بكليهما  ـ عدم جعل الحرمة وعدم جعل الحلية بالالتزام بعدم الجعل أصلاً، فلا تلزم مخالفة عملية قطعية أيضاً.

نعم إنما يلزم المخالفة الإلتزامية للعم الإجمالي بجعل أحد الحكمين في الشريعة الإسلامية المقدسة، وهذا ممّا لا محذور فيه، فإنّه نلتزم وبعدم الجعل مطلقاً في مقام العمل، وفي مقام الافناء نرجع عندئذٍ إلى غيرهما من الأصول العملية كأصالة البراءة مثلاً في ما نحن فيه بعدم حرمة الوطي عند الإنقطاع وقبل الاغتسال لأصالة البراءة. عند الشك في الحكم والتكليف به، فتأمل وهناك وجود اخرى في الجواب عن الاشكال تأتينا إن شاء الله تعالى.