يقع الكلام عطفاً على ما سبق: فيما قاله الفاضل النراقي من التفصيل بين الأحكام الكلية الإلهية وفي الشبهات الحكمية فلا يجري فيه الاستصحاب وبين الموضوعات الخارجية والشبهات الموضوعية، فيجري فيه الاستصحاب كما هي موارد ما ورد في النصوص وروايات الباب.

وإنّما لا يجري في الشبهات الحكمية لتعارض الاستصحابين دائماً فيها كاستصحاب الماء القليل النجس المتمم بالكر، فمن جهة القليل المنجس يستصحب النجاسة ومن جهة الأصل طهارة الماء وعدم نجاسته عند تتميمه بالكر يستصحب عدم النجاسة، فيقع التعارض بينهما، إلّا أنّه أورد عليه بعض الاشكالات، منها: ما أورده صاحب الكفاية المحقق الخراساني  قدس سره.

وخلاصة قوله: أنّ الفاضل قدس سره أنه تارة نظر إلى المسامحة العرفية في الموضوع، فأجرى استصحاب وجود النجاسة المتمّم بالكر بأنه سواء كان مع التيمم أو بدونه فإنّ موضوع النجاسة هو الماء القليل المتنجس والموضوع فيهما واحداً عرفاً.

وأخرى نظر إلى الموضوع بالدّقة العقلية فأجرى استصحاب عدم النجاسة، فإنّ الماء غير المتمم غير الماء المتمم بالدقة العقلية، ثم أشكل عليه بأنّ المرجع في وحدة الموضوع وتعدّده هو العرف، وأنّ العرف ببابك وهو يرى وحدة الموضوع وأمّا القلّة وهوالماء القليل قيل التيمم والكثرة وهو الماء القليل بعد التيمم إنّما هما من الحالات العارضة ولا تؤثر في وحدة الموضوع العرفي، فلا مجال لإنكار استصحاب النجاسة من دون معارض.

واُجيب عن هذا الإيراد دفاعاً عن الفاضل: بأنّ المعارضة بين الاستصحابين النجاسة وعدمها لا تتوقف على لحاظ الموضوع بالدّقة العقليّة، بل بعد القول بناء على المسامحة العرفية والقول بوحدة الموضوع بين القضيتين يجري استصحابه بقاء النجاسة لكونه الماء القليل النجس، وعدم جعل النجاسة للماء في صدر الإسلام بالنسبة إلى حال الكثرة، فإنّ القدر المتيقين هو جعل النجاسة عندما لم يتيمم بالكر، وأمّا مع التيمم فالأصل الطهارة وعدم النجاسة، فتقع المعارضة حينئذٍ بين الاستصحابين مع ملاحظة الموضوع في القضيتين أمراً واحداً عرفاً؟ فتأمل.

ومنها: ما أورده الشيخ الأعظم قدس سره.

وخلاصة قوله: أنّ الزمان إن كان مفرّداً للموضوع وكان الحكم إنحلالياً، فلا يجري استصحاب وجود النجاسة لعدم إتحاد الموضوع ويجري استصحاب العدم، وغن لم يكن الزمان مفرّداً، فيجري استصحاب الوجود  لإتحاد الموضوع ولا يجري استصحاب عدم النجاسة، فلا معارضة حينئذٍ بين الاستصحابين أصلاً.

ولكن اُجيب عنه: أنه تقع المعارضة مع عدم كون الزمان مفرّداً ـ كما مرّ تفصيل ذلك ـ مع وحدة الموضوع عرفاً، فيقال: إنّ هذا الموضوع الواحد كان حكمه النجاسة كالماء القليل النجس وشك في بقائه ـ بقاء النجاسة ـ فيجري استصحاب بقائه ويحكم بنجاسته في زمن الشك كما كان متيقناً في زمن اليقين فابق على ما كان. ويقال أيضاً: إنّ هذا الموضوع بعد تيممه بالكر لم يجعل له حكم في الأول لا مطلقاً ولا مقيداً بحال من الأحوال، ثم المتيقن جعل الحكم له ـ أي جعل النجاسة للماء القليل ـ حال كونه مقيداً بالقليل فيبقى جعل الحكم بالنسبة إلى غير القليل أي الكثير تحت الحكم الأولي وهو الطهارة وعدم النجاسة، فتقع المعارضة حينئذٍ بين الاستصحابين ـ النجاسة وعدمها ـ مع حفظ وحدة الموضوع.

كما أن الشيخ بنفسه ذهب إلى هذا المعنى أيضاً من القول بتعارض الاستصحابين في الشبهات الموضوعية إذا كان الشك من ناحية المفهوم.

مثال ذلك: إذا قال المولى اكرم العلماء وكان زيد عالماً عند وجوب الإكرام، إلّا أنّه زالت عند ملكة العلم، فشككنا في وجوب إكرامه من حيث الشك في شمول مفهوم العام لمن تلبس بالمبدء فقط أو أنه يصدق العالم لمن انقضى عنه المبدء كذلك فلاشك أن في الأمور الخارجية، بل الشك إنّما هو في جعل الشارع للعالم من حيث الضيق أي المشتق المتلبس بالمبدء ومن حيث السعة أي أعم من المتلبس وممن انقضى منه المبدء، فهنا يجري التعارض بين الاستصحابين كما ذكر في الشبهات الحكمية في المقام، فتأمل.

وخلاصة الكلام: ظهر ممّا ذكر أنه لا مجال لجريان الاستصحاب في الشبهات الحكمية ولا الموضوعية إذا كان الشك في المفهوم لتعارض الاستصحابين بخلاف الشبهات الموضوعية إذا كان الشك من جهة الأمور الخارجية، فإنّه يجري فيه الاستصحاب لعدم الشك فيها في الجعل، وإنّما الشك في بقاء الموضوع الخارجي، فيجري الاستصحاب فيها بلا معارض.

مثال ذلك: إذا شككنا في تحقق الندم بعد اليقين بالوضوء، فلاشك لنا في الجعل الشرعي ولا في مقدار سعة المجعول ومتعلق الحكم والجعل الشرعي، لأنا نعلم أن المجعول هو حصول الطهارة بالوضوء وباقٍ ذلك حتى يحدث ما ينقض الوضوء كالنوم، وإنّما الشك في حدوث النوم في الخارج أي الشك في الموضوع الخارجي من جهة أمور خارجية، فيجري استصحاب عدم النوم والحكم بالطهارة من دون معارض.

هذا وهناك اشكالات أخرى على الفاضل كما ستأتي إن شاء الله تعالى.