يقع الكلام في التفصيل الثالث من التفاصيل الكثيرة في جريان الاستصحاب وعدمه، وهذا التفصيل قد اختاره المحقق النراقي في المستند (مستند الشيعة: 2: 495) وهو التفصيل بين الأحكام الكليّة الإلهية وبين الأحكام الجزئية والموضوعية الخارجية، فيجري في الثاني دون الأول، ومفاد هذا القول أن الاستصحاب حينئذٍ يكون قاعدة فقهية منصوصة ومجعولة من قبل الشارع في الشبهات الموضوعيّة، دون الشبهات الحكمية، وتكون نظير قاعدة الفراغ وقاعدة التجاوز وغيرهما من القواعد الفقهية في الموضوعات الخارجية.

وقيل: الوجه والدليل الدال عليه هو من جهة قصور دلالة أخبار الاستصحاب على شمولها للأحكام الكليّة الإلهيّة.

وأرد عليه: أنّ القول بكون قاعدة الاستصحاب قاعدة فقهية مجعولة شرعاً هو الصحيح، وما قيل أنه من جهة قصور الأخبار فهو غير تام، لأنّ عموم التعليل وإطلاقه في الأخبار شامل للشبهات الحكمية والشبهات الموضوعيّة، فإختصاص المورد بالشبهات الموضوعية لا يوجب رفع اليد عن عموم الدليل.

وربّما يقال الدليل والوجه في هذا التفصيل وأن الإستصحاب حجة في الشبهات الموضوعية دون الشبهات الحكمية أي في الأحكام الكلية الإلهية من جهة أنّ الاستصحاب في الكليات معارض بمثله دائماً.

بيان ذلك: من أركان الاستصحاب هو الشك اللاحق والشك في الحكم الشرعي الكلّي لا يخلو من حالين: تارة يرجع الشك إلى مقام الجعل للحكم مطلقاً ولو لم يكن المجعول فعليّاً، بل على نحو القضية الحقيقية لعدم تحقق موضوعه في الخارج.

مثاله: كما لو علم بجعل الشارع القصاص في الشريعة المقدسة بنحو مطلق من دون أن يكون الحكم به فعلياً لعدم تحقق القتل مثلاً، فلو شككنا في بناء هذا الجعل الشرعي للقصاص، فإنّه نجري الاستصحاب بقاء الجعل، ويسمى باستصحاب عدم النسخ أي نسخ الحكم الشرعي المجعول، وهذا الاستصحاب خارج عن محل الكلام بل نستغنى عنه مع قوله عليه السلام (حلال محمد صلى الله عليه وآله وسلم حلال إلى يوم القيامة وحرامه حرام إلى يوم القيامة) (الكافي: 1: 58 باب البدع والرأي والمقاييس الحديث التاسع عشر).

والحالة الثانية: أن يكون الشك راجعاً إلى المجعول الشرعي إلّا أنه بعد فعليته وذلك بتحقق متعلقه وموضوعه في الخارج.

مثاله: كالشك في حرمة وطئ المرأة بعد إنقطاع الدم قبل الإغتسال، فهل يحرم استصحاباً للحرمة التي كانت في أيام حيضها أو لا يحرم لإنقطاع الدم وإن لم تغتسل.

والشك في المجعول إلى أحد أمرين، لأن الشك في بقاء المجعول إمّا أن يكون لأحل الشك في دائرة المجعول سعة وضيقاً من قبل الشارع، كما لو كان الشك في أنّ المجعول من قبل الشارع المقدس هل هو حرمة وفي الحائض حين وجود الدم فقط فيكون مضيقاً أو حين الاغتسال وإن إنقطع الدم فيكون موسعاً، وبطبيعة الحال الشك في سعة المجعول الشرعي وظيفة يؤثر في سعة الموضوع وضيقه أيضاً، فيستلزم الشك في الموضوع أيضاً، فإنّه لا نعلم هل الموضوع لحرمة الوطي هو وطي واجدة الدم أو المحدثة بحدث الحيض مطلقاً، ويعبر عن هذا الشك بالشبهة الحكمية.

وأمّا أن يكون الشك لأجل الأمور الخارجية بعدم العلم بمورد المجعول من حيث السعة والضيق من قبل الشارع المقدس، فيكون الشك حينئذٍ من الشك في الإنطباق، كما لو كان الشك في إنقطاع الدم هل إنقطع أو لم ينقطع بعد العلم بعدم حرمة الوطئ بعد الإنقطاع مطلقاً ولو قبل الإغتسال، وهذا ما يعبّر عنه بالشبهة الموضوعيّة.

ولاشك في جريان الاستصحاب في الشبهات الموضوعية كما يدل عليه النصوص في الباب وإنّما الكلام في الشبهات الحكمية.