الاستصحاب

قال المصنف قدس سره: فصل في الاستصحاب: وفي حجيته إثباتاً ونفياً أقوال للأصحاب.

أقول: كان الكلام ولا يزال في الدليل النقاهتي من الأخذ بالأصول العملية عند الشك وعدم الدليل الإجتهادي من الأمارات الشرعية كالظواهر وخبر الثقة، فإنّه عند الشك تارة لا يلاحظ الحالة السابقة، ويكون الشك تارة في التكليف وأخرى في المكلّف به مكان مجرى الأصول الثلاثة من إصالة البراءة والتخيير والإشتغال وهذا قد مرّ فيه تفصيل الكلام، وأخرى يكون الشك فيما له حالة سابقة، وهذا مجرى أصالة الإستصحاب.

والذي يظهر من الأصول العملية أنّ الاستصحاب من حيث الرتبة مقدّم على الثلاثة الأولى، فإنّ المرجح الأول للفقيه في مقام الاستنباط بعد اليأس عند الدليل الإجتهادي الذي يكشف عن الواقع، ومعه لا تصل النوبة إلى الأصول الثلاثة المتقدمة، فتأمل.

ثم أي مفردة علمية يبحث عنها تارة من جهة الإستعمال اللغوي، وما جاء في اللغة بحسب الوضع الأول، وأخرى في المصطلح عند قوم كالمصطلح الفلسفي أو الفقهي والأصولي، والمصطلح قياساً بالغة وكونه منقولاً من اللغة تارة بنقل مألوف كان يكون المصطلح أخص من اللغوي كما هو الغالب وأخرى أعم، وتارة يكون بنقل غير مألوف كما لو كان التباين بينهما من حيث الوضع والإستعمال.

فالاستصحاب لغة: بمعنى الملازمة فإنه في الأصل من صحب وفي باب الاستفعال مما يدل على الطلب لمكان حروف (است) الدال على الطلب كالاستخراج.

وفي مجمع البحرين: استصحب الشيء لازمه، واستصحبت الكتاب وغيره: حملته صحبتي، ومن هذا القبيل استصحاب الحال إذا تمسّكت بما كان ثابتاً، كأنّك جعلت تلك الحال مصاحبة غير مفارقة([1]).

ويأتي أيضاً لغةً: بمعنى: الإنقياد، والحوار، والحفظ، والمنع، والرؤية، والمجالسة، والتمسّك بشيء، والمقارنة، والملك وغيرها، والمادة (صحب) في الأصل: هو العشرة وادامتها في الحياة في برنامج ظاهري أو باطني مع شخص أو أمر آخر، وإن كانت العشرة من الطرفين فيعبّر فيها بصيغة المعاشرة الدالة على الإستدامة، وقريبة منها  ما ذكر من المعاني كالملاحظة والملازمة والمرافقة والمجالسة والمؤانسة والمقاربة والمقارنة وغيرها مع الفرق في كل لفظ كما هو مذكور في محلّه([2]).

والإستصحاب في المصطلح الأصولي والفقهي: فقد عرف بوجوه كما يأتي تفصيلها ومنها إجمالاً: إبقاء ما كان على ما كان.

ثم يقع الكلام في حجيته شرعاً إثباتاً ونفياً، فقد إختلف الاعلام على أقوال:

قال في أوثق المسائل: قبل تبلغ الأقوال في المسألة نيفاً وخمسين([3]).

وأمّا شيخنا الأعظم الشيخ الأنصاري قدس سرّه، فإنّه كصاحب الفصول ذكر أحد عشر قولاً، وأضاف صاحب الفصول قولاً آخر وهو ما اختاره من القول بالتفصيل بين الشك في المقتضى والشك في الرافع، وعدّه القول الثاني عشر في المسألة كما يأتينا تفصيله.

ولا بأس بالإشارة إلى الأقوال إجمالاً: ثم يأتي التفصيل إن شاء الله تعالى.

الأول: حجية الاستصحاب مطلقاً، وقيل أن الشهيد الثاني عزّاه ونسبه إلى أكثر المحققين.

الثاني: عدم الحجيّة مطلقاً، وفي أوثق المسائل: ذهب إليه السيدان وصاحبا المدارك والمعالم.

الثالث: القول بالتفصيل بين الوجودي والعدمي، نسب ذلك إلى بعض العامة.

الرابع: التفصيل بين الأمور الخارجية وبين الحكم الشرعي، فإنّه يجري في الثاني دون الأوّل.

الخامس: التفصيل بين الحكم الشرعي الكلّي وغيره، بأنه يجري في الثاني دون الأول، إلّا في عدم النسخ، قيل هو مختار الأخباريين.

السادس: التفصيل بين الحكم الجريء وغيره، فلا يعتبر في الأوّل، وقبل يظهر من كلام المحقق الخونساري اختياره.

السابع: التفصيل بين الأحكام التكليفية والوضعية وما يترتب عليها من التطليف، فيجري في الثاني دون الأوّل، نسب إلى الفاضل التوني.

الثامن: التفصيل بين ما ثبت بالإجماع وغيره، فإنّه لا يجري الاستصحاب وبعدم اعتباره في الأول، حُكى ذلك عن الغزالي.

التاسع: التفصيل بين الشك في المقتضي والشك في الرافع، كما هو ظاهر المحقق الحلّي في المعارج واختاره صاحب الفصول.

العاشر: هذا التفصيل مع اختصاص الشك بوجود الغلبة لا الرافع.

وقد تعرض الشيخ في فرائد أصوله لاكثر هذه الأقوال مع أدلتها ونقضها وابرامها، إلّأ أنّ المحقق الخراساني في كفايته اكتفى بمختاره من القول بحجية الاستصحاب مطلقاً، وبتفاصيل أربعة، كما سنتعرض لها في المستقبل إن شاء الله تعالى.