التنبيه السادس

لقد مرّ فيما سبق أنّ قاعدة لا ضرر حاكمة على الأدلة الثابتة للتكاليف، وليست المسألة من نسبة العموم والخصوص من وجه حتى يقال بالتعارض في مادة الإجتماع والرجوع إلى المرجحات السنديّة والدلالية أو القول بالتخيير أو التساقط على إختلاف الأقوال والمباني، فإذا كان الحكم الشرعي فيه الضرر والمسمى بالضرر الشرعي، فإنّ حديث وقاعدة لا ضرر نفى ذلك سواء في الأحكام التكليفية كما في وجوب الوضوء الضرري فيرتفع بالقاعدة أو الأحكام الوضعية كلزوم البيع الغيني فيرتفع اللزوم بالقاعدة.

فذكر بعض الأعلام إنّ هذا المعنى حكومة قاعدة لا ضرر كما تجري في الأحكام الوجودية كذلك تجري في الأحكام العدمية، أي القاعدة حاكمة على الأحكام العدميّة، فإذا كان الحكم الوجودي الضرري يرتفع بالقاعدة، فكذلك نفي الحكم من كان ضررياً يرتفع بها، ومن المعلوم أن تفي النفي يستلزم ثبوت الحكم.

ومُثل لذلك بأمثلة: منها: (كما في المصباح: 2: 648) ما ذكره الفاضل المتوفي قدس سره من أنه لو حبس أحد غيره عدواناً فشرد حيوانه، فإذا قيل بعدم الضمان على الحابس، فإنّه يلزمه الضرر على المحبوس، فينتفي بحديث لا ضرر ويحكم بالضمان، وهذا من نفي النفي الموجب للإثبات، فننفى نفي الضمان بالقاعدة، فيثبت الضمان حينئذٍ.

ومنها: ما ذكره السيد اليزدي قدس سره في ملحقات العروة (1: 75 المسألة 32) واستدل له تارة بقاعدة لا ضرر وأخرى بالروايات الخاصة، والمسألة هي: أنه لو إمتنع الزوج عن نفقة زوجته، فيجوز للحاكم إذا رفعت أمرها إليه أن يطلقها، فإذا حُكم بعدم الحكم بجواز طلاقها للحاكم فإنّ فيه الضرر المنفي بالقاعدة والحديث (لا ضرر ولا ضرار) ونفي النفي يلزمه ثبوت جواز الطلاق للحاكم.

وقد أشكل المحقق النائيني على المثالين من جهتين: الأولى: من حيث الكبرى فإنّه منع أن تكون القاعدة حاكمة على الأحكام العدمية كما كانت حاكمة على الأحكام الوجودية.

والثانية: من حيث عدم تطبيق الكبرى على المثالين فيمنع الصغرى كذلك.

أما الأول: إنّ القاعدة وحديث لا ضرر إنّما هو ناظر إلى الأحكام المجعولة الشرعية الضررية كالوضوء الضرري أو بعبارة أخرى ناظر إلى الأحكام المجعولة في الشرعية المقدسة، إلّا أنها مقيدة بصورة عدم الضرر، ولكن عدم الحكم كما في المثالين ليس حكماً مجعولاً شرعاً، فقلا يشمله الحديث والقاعدة حينئذٍ، فهو أشبه بالخروج الموضوعي والتخصصي من العام، كخروج الجاهل من العلماء.

وأمّا الثاني: فإنّه كما مرّ تكراراً إنّ حديث لا ضرر ناظر إلى نفي الضرر الشرعي الذي كان من قبل الشارع دون ما كان من قبل الشخص والضرر الخارجي، فلا دلالة للحديث على شمول تدارك الضرر الخارجي المتحقق من قبل الشخص وليس من جهة الحكم الشرعي، ومن الواضح أن الضرر في المثالين ليس من جهة الشارع المقدس في عالم التشريع والجعل وعليه فلا يمكن التمسك بحديث لا ضرر لاثبات الضمان في المسألة الأولى ولا لاثبات جواز الطلاق في المسألة الثانية.

وأورد عليه: أما منع الكبرى بعدم جعل حكم عدمي في المقام فغير تام أولاً، لأن عدم جعل الحكم في مورد قابل للجعل إنّما جعل لعدم ذلك الحكم، فيكون العدم مجعولاً أيضاً.

وثانياً: ما ورد في الأحاديث الشريفة من أن الله سبحانه لم يترك شيئاً بلا حكم (الوسائل: 27: 38 و52 ، أبواب صفات القاضي الباب السادس الحديث الثمان والحديث الثامن والثلاثون وفي الكافي المجلد الأول صفحة 59 باب الرّد إلى الكتاب والسّنة).

فقد جُعل الحكم من قبل الشارع مطلقاً لجميع الأشياء أعم من أن تكون وجودية أو عدمية، كما أنّ بعضها حكم تكليفي وبعضها حكم وضعي.

فلا مانع حينئذٍ من شمول دليل لا ضرر للأحكام العدمية كما كان للأحكام الوجودية إن كانت ضررية.

هذا من حيث الكبرى، وأمّا الصغرى لهذه الكبرى فإنّها غير متحققة، فإنّه لم نجد مورداً كان فيه عدم الحكم ضررياً حتى نحكم برفعه بحديث انه وحديث عليه ثبوت الحكم.

وأمّا الاشكال الثاني الذي أورده المحقق النائيني في منع صدق الكبرى على ما ذكر من الصغرى في المثالين فوارد، توضيح ذلك يأتينا إن شاء الله تعالى.