يقع الكلام عطفاً على ما سبق في بيان مفردات قاعدة لا ضرر، فبعد ذكر المعاني المحتملة في الضرر والضرار يقع الكلام في معنى (لا) الواردة في القاعدة، فذكر أن لها لغة وعرفاً معان.

الأول: ما أشار إليه المحقق الخراساني قدس سره وذهب إليه: من أنّه لنفي الحقيقة ولنفي الجنس، فإنّ (لا) النافية إذا دخلت على نكرة أفادة نفيها ونفي طبيعتها حقيقة أو مبالغة أو إدعاءً بمعنى لو كان موجوداً إلّا أنّه لا يترتب عليه الآثار المرغوبة والمطلوبة فوجوده كعدمه وكالمعدوم كالوضوء الضرري فهو منفي شرعاً، فإنّه وإن وجد تكويناً إلّا أنه نفي تشريعاً أي نفي حكمه شرعاً ويكون من باب نفي الحكم بلسان نفي الموضوع، فالموضوع الضرر لا حكم له ويكون مفاد ليس الناقصة والعدم النفي أي الحكم الضرري لاجعل له شرعاً.

كما هو الظاهر في مثل قوله صلى الله عليه وآله وسلم (لا صلاة لجار المسجد إلّا في المسجد) أي الصلاة (ان كانت موجودة ومقبولة بقبول الصحة ولا تعاد ولا تنقض إلّا أنها ليست مقبولة بقبول كمال وما يترتب على تلك الصلاة من الآثار المرغوبة في الصلاة الكاملة وذات جمال وكمال، بل مجرد انها صحيحة، فنفيها هنا يكون من باب الادعاء وليس النفي الحقيقي بمعنى بطلان صلاته ، فنفى الحقيقة في مثل هذه التراكيب إنما يكون من نفي الحقيقة إدعاءً ومجازاً وتسامحاً لا بنحو الحقيقة.

وفي المقام كذلك، فإنّه لما تعذرت إرادة المعنى الحقيقي في قوله (لا ضرر ولا ضرار) وهو نفي الضرر حقيقة لوجود الضرر على كل حال في الخارج فنفيه يكون كذباً إلّا أنه تنفي ذلك وننفي حقيقته إدّعاء، فهذا هو الأصل في مثل هذا التركيب أولاً، فإنّ÷ يدل على نفي الحقيقة ونفي الجنس، وثانياً: يدلّ على نفي الحقيقة إدّعاءً وليس بنحو الحقيقة فينزل وجود الضرر الذي لا يترتب عليه منزلة عدمه.

الثاني: ما ذهب إليه المشهور والشيخ الأعظم: بعد تعذر إرادة المعنى الحقيقي من نفي الضرر لوجوده في الخارج فنفيه يكون كذلك فلابدّ من الاستعمال المجازي فيه فذهب شيخنا الأعظم الشيخ الأنصاري قدس سره وإلى أن قرب المجازات في المقام بأن المقصود من القاعدة ومن (لا) النافية للجنس هو إرادة الحكم الشرعي من الضرر، باستعمال الضرر في الحكم بعلاقة السببية، فإن في الاستعمال المجازي لابد من علامة وفي المقام العلاقة هي العلاقة السببية فالمعنى لا حكم ضرري.

بيان ذلك: أنّ الضرر ينشأ من حكم الشارع، كما إذا وجب الوضوء إلّا أنّ استعمال الماء مضراً، أو لزم البيع الغبني فإن الضرر في الأول ناشئ عن حكم الشارع بوجوب الوضوء أي بسبب حكم الشارع، وفي الثاني عن حله بلزوم البيع على المغبون فهذان ـ الوجوب واللزوم ـ  منفيّان لقاعدة الضرر، فيكون استعمال لفظ (الضرر) مجازاً في سببه وهو الحكم الشرعي التكليفي كالمثال الأول أو الوضعي كالمثال الثاني.

وبهذا التصرف المجازي يصير النفي حقيقتاً، باعتبار عدم جعل طبيعة الحكم الذي ينشأ منه الضرر حقيقةً، ففي ظرف التشريع لا ضرر حقيقة، ويكون من المجاز في الكلمة كاستعمال القمر في الرجل الجميل. فالحكم الضرري لا جعل له.

وهذا ما اختاره المشهور كما ذهب إليه الشيخ الأعظم فقال: (إن المعنى بعد تعذر إرادة الحقيقة، عدم تشريع الضرر، بمعنى أنّ الشارع لم يشرع حكماً يلزم منه ضرر على أحد تكليفاً أو وضعياً، فلزوم البيع مع الغبن حكم بلزوم منه ضرر على المغبون فينتفي) ^([1]) بقاعدة لا ضرر.

الثالث: ما ذهب إليه الفاضل التوني وبعض الفحول: ان المراد من النفي الدال عليه كلمة (لا) في التركيب إنما هو إرادة لقي نوع من أنواع طبيعة الضرر وليس كل الأنواع، فيكون نفي الضرر مجازاً أيضاً إلّا أنه بنحو المجاز في الحذف، بأن يقال: (إن الضرر غير المتدارك لاجعل له شرعاً، فالمنفي وإن كان الضرر إلّا أنه ليس مطلقاً، بل خصوص الضرر الذي لا يتدارك ولا يُجبر، كإتلاف مال الغير بدون الضمان، أو صحة البيع الغبني بدون جبران ضرر المغبون باعطاء حقّ الخيار خيار المفسح له.

الرابع: ما ذهب إليه صاحب العناوين العلامة السيد المراغي وشيد أركانه العلامة الشيخ الشريعة الاصفهاني قدس سره بأن المراد من (لا) هو (لا الناهية) بان يراد من (لا ضرر) الزجر عنه وطلب تركه، وهذا نظير قوله تعالى: ﴿فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدَالَ فِي الْحَجّ﴾، وبعبارة أخرى سيكون لا ضرر بناء على هذا القول يساوي قولنا: (يحرم الضرر).