عطفاً على ما سبق:

والمواضيع التي تطرح في شرائط جريان الأصول العملية، وفي خصوص البراءة أنه كما يجب الفحص أوّلاً، كذلك مشروط بشرطين آخرين كما ذكر ذلك الفاضل التوني قدس سره كما حكاه الشيخ الأعظم الشيخ الأنصاري قدس سره.

الأوّل: أن لا تكون البراءة سبباً للضرر على مسلم أومن كان بحكمه كالكافر الذّمي كما لو فتح إنسان قفص طائر فطار أو حبس شاة فمات ولدها، أوأمسك رجلاً فهربت دابته، فإن إجراء البراءة في مثل هذه الموارد ممايوجب الضرر على المالك.

الثاني: أن لا يكون جريان البراءة مستلزماً وسبباً لثبوت حكم إلزامي من جهة أُخرى كما لو علم إجمالاً بنجاسة أحد الإنائين فإنّ جريان البراءة عن وجوب أحدهما يوجب وجوب الإجتناب عن الآخر للعلم الإجمالي بنجاسة أحدهما، ومن ثم يقال بسقوط الأصول في العلم الإجمالي لعدم ترجح أحدهما على الآخر ولأن يستلزم جريان الأصل في أحدهما ثبوت حكم إلزامي للآخر.

أمّا الشرط الأول: فأشكل عليه شيخنا الأنصاري قدس سره وغيره، بأنّ البراءة وإن لم تكن جارية في موارد جريان قاعدة لا ضرر، ولكن ليس السبب في ذلك من جهة كونه شرطاً لجريان اصالة البراءة، بل من جهة لو جرت قاعدة لا ضرر، فإنّه ينتفي موضوع البراءة وهو الشك، فلا شك حينه مع قاعدة لا ضرر وأنه يقدمن الدليل الإجتهادي ولا مجال للرجوع إلى الدليل الفقاهتي وهو الأصل، فإنّه دليل من لا دليل له، فمع وجود الدليل لا مجال للأصل، وهذا يجري في سائر الأصول العملية بالنسبة إلى الأدلة الإجتهادية.

هذا ما ذهب إليه الشيخ وغيره في جواب الفاضل التوني.

وقيل: إن كان مراد الفاضل ما قصَده الشيخ فالاشكال وارد،ولكن كلامه متين لو كان مراده من عدم جريان البراءة مع القاعدة من جهة أنّ البراءة باعتبار حديث (رفع عن أمتي) إنما هو وارد في مقام الإمتنان على الأمة المحمّدية، بقرينة انتساب الأمة إلى الرسول الأعظم محمد صلى الله عليه وآله وسلم في (رفع عن أمتي) فلابدّ في مورد البراءة أن لا يكون فيه خلاف الامتنان على أحد من الأمة، فلو لزم جريان البراءة ضرراً على مسلم، فلا تجري حينئذٍ ولا يشمله حديث الرفع.

ومن ثمّ يقال حديث الرفع لا يقيد به إطلاق قوله عليه السلام (من أتلف مال الغير فهو له ضامن) فلو أتلف مال الغير جهلاً أونسياناً أو خطأً لا يمكن أن يقال بعدم الضمان تمسكاً بحديث الرفع، فإنّه خلاف الامتنان على المالك.

ثم الأمثلة التي ذكرها الفاضل التوني، فإنّه لا يمكن أن يتمسك فيها بقاعدة لا ضرر، لأنّه قد ورد الضرر على المالك أو المكان لا محالة، فإنّه لو حكمنا بالضمان، فإنّه ضرر على المتلف، ولو حكمنا بعدمه فإنّه ضرر على المالك، ولا يمكن جريان البراءة على الضمان لأنه خلاف الامتنان على المالك، بل يحكم بالضمان لإطلاق قوله عليه السلام (من أتلف مال الغير فهو له ضامن) وهذا باعتبار الصدق المعرفي هي التلف، بمعنى إذا كان الطيران من القفص وموت الولد وهروب الدابة ينسب إلى فعل الشخص كنسبة المعلول إلى علّته بنظر فالعرف بنحو يعّد فعله إتلافاً لمال الغير بنظر العرف، وإن لم يكن ذلك بالدقة العقليّة والعلية الفلسفيّة، فالميزان والملاك في الإتلاف والتلف هو صدق الإتلاف عرفاً.

وأمّا الشرط الثاني: فقيل تحقيق الحال يستوجب التفصيل في المقام، فإنّ ترتب الإلزام من جهة على جريان البراءة يتصور على أقسام ثلاثة وهذا ما يأتينا تفصيله إن شاء الله تعالى.