الثاني: يتفرّع على ما سبق: في صحة الصلاة في السفينة اختياراً مع رعاية الأجزاء والشرائط، وأنّ الحركة التبعيّة لا تضر بصحة الصلاة، وحينئذٍ يا ترى هل تصح كذلك حتى مع الاخلال بالأجزاء والشرائط وعدم التمكن من استيفاء الأفعال الاختيارية، وتكون حينئذٍ للسفينة خصوصية تمتاز بها عن غيرها، وهي جواز الاقتصار على ما تيسّر له من الأفعال والأبدال، وإن كان متمكناً من الخروج والصلاة على الأرض تامة الأجزاء والشرائط.

إختلف الأعلام في ذلك، فذهب جمع من المتأخرين إلى جواز ذلك، وحكى عن جمع من القدماء أيضاً، ولعلّ المشهور ذهب إلى خلافه واستدل الجوزين أولاً: بروايتين:

الأولى: بمرسلة الصدوق في الهداية قال: (سُئل الصادق عليه السلام عن الرّجل يكون في السفينة وتحضر الصلاة أيخرج إلى الشط؟ فقال: لا، أيرغب عن صلاة نوح؟ فقال: صلى في السفينة قائماً، فإن لم يتهيأ لك من قيام فصَلها قاعداً، فإن دارت السفينة قُدر معها، وتحّر القبلة جهدَك، فإن عصفت الريح ولم يتهيّأ لك أن تدور إلى القبلة فصل إلى صدر السفينة، ولا تجامع مستقبل القبلة ومستدّبرها^([1]).

وبفقه الرّضا عليه السلام: (إذا كنت في السفينة فدر معها وتحرّ القبلة، وإن عصفت الريح فلم يتهيّأ لك أن تدور إلى القبلة، فصل إلى صدر السفينة، ولا تخرج منها إلى الشط من أجل الصلاة^([2]).

وجه الاستدلال: كما يظهر من الخبرين جواز الصلاة في السفينة حال الاضطراب والاضطرار وإن تمكن من الخروج منها إلى الأرض.

وأُجيب عنها: أولاً: بضعف السّند.

وثانياً: لا تبلغان من القوة بحيث تعارض الأخبار الأخرى الدالة على صحة الصلاة في السفينة مع عدم الاستيفاء والرعاية لو لم يتمكن من الخروج؟ كما لو كانت على الماء في الأسفار البعيدة، فلا يقول عليهما في إثبات حكم مخالف لإطلاقات الأدلة الأولية.

وثانياً: بإطلاق ما دلّ على جواز الصلاة في السفينة اختياراً، فهو يعّم فيما لو تمكن من رعاية الأجزاء والشرائط أو عدمه كصحيحة جميل وغيرها، فيجوز مطلقاً ولا حاجة إلى الخروج وإن تمكن منه.

وأجيب عنه: أولاً: بمنع الاطلاق في تلك الأخبار، إذ أنها بحسب السؤال والجواب إنما هي بصدد بيان حكم الصلاة في السفينة بما هي هي، وأن الحركة التبعية غير قادحة في الصلاة فيها، فلا بأس بالصلاة في السفينة من دون النظر إلى سائر ما يعتبر في الصلاة حتى يقال بانعقاد الاطلاق فيها بلحاظها، فلا اطلاق فيها بالنسبة إلى استيفاء الأفعال وعدمه، فإنّ المقصود من السؤال هو الصلاة في السفينة السائرة من دون ملاحظات أمور أخرى حتى يقال بإطلاقها.

وثانياً: أو قيل بالاطلاق في مثل صحيحة جميل، فإنّها معارضة بمثل صحيحة حماد كما مر، والجمع بينهما أنه لو تمكن من الخروج مع عدم الاستيفاء، فليخرج، فيبقى تحت صحيحة حمّاد فيما لو اختلفت الصلاتين، بأن يكون الإتيان بها في السفينة تُوجب وقوع الخلل في أجزائها وشرائطها، فلا يجوز، فتستثنى هذه الصورة من اطلاق صحيحة جميل، ويبقى تحتها إطلاقها فيما لو تساوت الصلاتين في رعاية الأجزاء والشرائط، ولا فرق بينها إلا من جهة أحدهما في السفينة والاخرى على الأرض وفي السّاحل، وبهذا الجمع يرتفع التباين والتعارض بين الصحيحتين بانقلاب النسبة الذي وجد من جهة موثقة يونس بن يعقوب، فتأمل.

وأمّأ لو تمكن من الإستيفاء ورعاية الأجزاء والشرائط، فلا اشكال في أن يصلّي في السفينة، فتحمل الأولى على التمكن والثانية على العجز، فلا اطلاق فيها حتى يتم صورة العجز عن الرعاية والاستيفاء.

فالأقوى كما هو المختار، إذا كان متمكناً من استيفاء الأفعال جاز الصلاة في السفينة اختياراً ، وإن لم يتمكن تعيّن عليه الخروج مع التمكّن واإتيان بصلاة تامة الأجزاء والشرائط في الساحل وعلى الأرض، فلا يجوز الاخلال بالأجزاء والشرائط إختياراً. إلّا إذا عجز عن الخروج، فيأتي بما تمكن من الأبدال الأقرب فالأقرب، فيراعي الاستقبال عن الشروع في صلاته، وإذا دارت السفينة دار معها لتحري القبلة وان لم يستطع فصلي حيث ما توجهت به السفينة وإن ورد في بعضها مع الريح يتوجّه إلى صدر السفينة فتأمل.

وفي صحيحة الحلبي: (يستقبل القبلة ويصفّ رجليه، فإذا دارت واستطاع أن يتوجه إلى القبلة، وإلّا فليصَل حيث توجهت به)^([3]).

التنبيه الثالث: يأتينا إن شاء الله تعالى.

تنبيهان الأول:

لقد مرّ في تعارض الروايات ولا سيما في صحيحة جميل الدالة على صحة الصلاة في السفينة اختياراً وصحيحة حمّاد الدالة على الخروج اختياراً وجهان للجمع كحمل الثانية على استحباب الخروج أو على عدم استيفاء الأفعال، وهنا جمع ثالث بين الصحيحتين وذلك باعتبار أن الصحيحة الأولى ظاهرها باطلاقها جواز الصلاة في السفينة مطلقاً حتى مع الخلل لو كان النزال منها إلى الساحل يسيراً، والثانية ظاهرة في تعين النزول إلى الأرض حتى لو لم تكن الصلاة في السفينة موجبة للخلل مما يدل على اشتراطية القرار مطلقاً بنحو تقدح الحركة التبعيّة بصحة الصلاة، فغذا كان التعارض بينهما من التباين، فإنّه يرفع اليد عن إطلاق الثانية أي صحيحة حماد بموثقة يونس بن يعقوب، فإنّه ـ كما  مرّ ـ ورد فيها، أنه سأل أبا  عبد الله عليه السلام عن الصلاة في الفرات، وما هو أصغر منه في الأنهار في السفينة ، فقال عليه السلام: إن صليت محسن وإن خرجت  فحسن.

فالسؤال من السائل في فرض التمكن من النزول إلى الأرض، فيكون السؤال عن حكم الصلاة في السفينة وأنه هل يمكن أن مكون السفينة مكان المصلي أيضاً كما في الأرض، فأجاب عليه السلام بعدم الفرق بينهما، فكلاهما على نحو واحد، وإن الصلاة عن حيث الذات والمكان متساوية في السفينة أو على الأرض.