فصل في شرائط جريان الأصول

من البحوث  الأصولية الواقعة في جريان الأصول العملية في مقام الدليل الفقاهتي ممن لم يكن له الدليل الإجتهادي من الكتاب الكريم والسنة المطهّرة قول المعصوم وفعله وتقريره، فإنّه مع فقد النص أو اجماله أو تعارضه وتساقطه يرجع إلى الأصول العملية كما مرّ تفصيل ذلك وهي البراءة وقاعدة الاشتغال (الاحتياط) وأصل التحيير والإستصحاب.

فيا ترى هل هناك من شرط وشروط في استعمال الأصول العملية وتطبيقها في مواردها، لاشكّ هناك شروط كما أشار إليها الأعلام، وهذا ما جعلنا نعقد هذا الفصل، قبل أن ندخل في الأصل الأخير وهو الاستصحاب، إذ مرّ علينا بالتفصيل في السنين السابقة الكلام حول الأصول الثلاثة: الاحتياط والتحيير والبراءة، فما هي شرائط تطبقها.

شرائط الاحتياط

أما شرط جريان الاحتياط الوجوبي والحسن كما في العلم الإجمالي، فإنّه لا يعتبر فيه من شرط في حسنه إلّا ما اعتبر في تحقق عنوانه، فإنّ المقصود من الاحتياط هو إدراك الواقع على ما هو عليه مما يوجب الأخذ بأطراف العلم الإجمالي كالتفصيلي، فما يذكر في شرطيته وحسنه فإنه يرجع إلى تحقق وصدق هذا العنوان الرئيسي في الاحتياط والاشتغال اليقيني والبراءة اليقينية وإنّما يحكم العقل بحسن الاحتياط، فإنه حسن على كل حال عقلاً ونقلاً، فإذا تحقق العنوان الأصيل في الاحتياط حكم العقل بحسنه.

وهنا يقع الكلام في كيفية حسن الاحتياط ف يالمعاملات والعبادات:

أمّا المعاملات بمعناها الأعم الذي يشمل العقود والايقاعات والتوصليات، أي ما كان أمره توصيلاً كالطهارة حيث لا يعتبر في المثال أمرها التقرب إلى الله سبحانه بخلاف العبادات، فإنّه لا يعتبر في حسن الاحتياط فيها إلّا الجمع بين المحتملات مما يوجب تحقق أصل عنوان الاحتياط.

ولكن إنّما يقال بحسن الاحتياط فيها بجمع المحتملات بشرط أن لا يوجب الوسواس ولا مخالفة احتياط آخر، ولا إختلال النّظام فإن الاحتياط حينئذٍ في ترك الاحتياط.

لأن كل واحد من هذه الأمور الثلاثة مبغوض للمولى جلّ جلاله، فإنه لو كان الاحتياط مخلاً بالنظام فإنه لا يصدق عليه حسن الاحتياط، بل يكون قبيحاً لكونه مبغوضاً للمولى، وكذلك فيما لو كان مخالفاً للاحتياط من جهة أخرى، فإنه لا يصدق عليه الاحتياط أو إدراك الواقع على ما هو عليه، كما قبح الاحتياط فيما يوجب الوسواس واضحاً.

وأمّا في العبادات، فلا ريب في حسن الاحتياط فيها فيما إذا لم يتمكن المكلف من تحصيل العلم التفصيلي، وكذلك إذا لم يكن الواقع منجزاً عليه كما في الشبهات الحكمية بعد الفحص عن الدليل الإجتهادي وعدم الظفر به، وفي الشبهات البدوية من الشبهات الموضوعية.

ولكن إذا كان المكلّف متمكناً من معرفة الواقع وما هو الواجب عليه تعيناً سواء أكان ثبوت ذلك بالعلم الوجداني، أو بالعلم العادي كالظن المعتبر، إذ كان الواقع منجز عليه على تقدير وجوده، كما في الشبهات البدوية الحكمية قبل الفحص عن الدليل.

فهل يجوز في هذه الموارد الاحتياط ويحسن ذلك قبل الفحص أو لا يجوز؟

إختلفوا الأعلام في ذلك فقيل بالجواز مطلقاً وقبل بعدمه مطلقاً، وقيل بالتفصيل بين كون الاحتياط يستلزم للتكرار أو لا يستلزم، وقيل: بالتفصيل أيضاً بين موارد العلم الإجمالي بثبوت التكليف وعدمه.

فمن قال بالجواز مطلقاً، فإنّه ذهب إلى أن المعتبر في تحقق العبادة إنما هو عبارة عن أمرين:

الأول: وجود وتحقق العمل في الخارج كالتسبيحات الأربع ثلاث مرات في الركعتين الأخيرتين.

الثاني: كون العمل منسوباً لله سبحانه ويضاف إليه.

وهذان الأمران كلاهما متحقق في الاحتياط.

نعم من قال باعتبار نيّة الوجه في العبادات والتمييز وغيرهما مما يذكر في محلّه، فإنهن يقول بعدم جواز الاحتياط بل لابدّ من الفحص، ولكن عند المحققين ولا سيما المتأخرين والمعاصرين قد ثبت عدم اعتبار ذلك كله، وقد تقدم تفصيل الكلام فيه في مبحث القطع، وهذا ما تختاره في المقام.