يقع الكلام عطفاً على ما سبق في المخترعات الشرعيّة فهل يتعلق الجعل بكل واحد من السبب والمسبب أو يكفي تعلّقه بأحدهما، في المسألة وجهان بل قولان:

فذهب المحقق النائيني قدس سره إلى كفاية الجعل الشرعي في مخترعاته بأحدهما، وخلاصة ما قاله في هذا الباب أن لو كانت المجعولات الشرعية نفس المسببات وترتّبها على أسبابها، كترتب الطهارة على الغسلات الثلاث، فالأسباب كالغسلات الثلاثة تكون خارجة عن دائرة الجعل الشرعي، فلا تنالها يد الوضع والرفع التشريعي، لأنّه لا يعقثل أن يتعلق الجعل الشرعي بكلّ من السبب والمسبّب، لأنّ جعل أحدهما يكفي جعل الآخر، فإذا كان الجعل الشرعي المعلّق بالمسببات، فحينئذٍ تكون الأسباب الشرعية كالأسباب العقليّة والمادية غير قابلة للوضع والرفع^([1]).

وأورد عليه: أنه خلط بين الأسباب والمسببات الشرعية والأسباب والمسببات التكوينية فقاس الشرعيات بالتكوينيات وهو قياس مع الفارق.

بيان ذلك: إنّ الجعل التكويني إنّما يتعلق بوجود السبب كما لو جعل الجاعل النّار جعلاً بسيطاً فهذا هو المجعول تكوينياً وأمّا سببية السبب في إحراق النّار بسبب النّار أو نفس السبب غير مجعول إلّا بالعرض، فإنّ الجاعل إنّما جعل النار إلى أوجدها في الخارج ولم يجعل النار ناراً ومؤثراً وسبباً للإحراق، ولا نفس الإحراق، فالجعل يتعلق بالسبب لا بالسببية.

فقالوا كذلك الشرعيات فإنّ الجعل على السبب دون المسبّب قياساً بالتكوينيات ولكن مقتضى التحقيق الفرق بينهما، لأنّه كما مرّ أنّ المسبب في المخترعات الشرعية لم يكن من الأمور العقلائية حتى يكون له سابق عنه العقلاء، وما كان كذلك لا يعقل أن يكون له مسبب عقلائي أو عقلي أو عادي، بل لابدّ أن يكون سببه إختراعياً أيضاً، فلابدّ من تعلق الجعل بالسبب والمسبب، ولا فرق في ذلك بأن يجعل السبب أولاً ثم المسبب أو قال بكلام يتكفل الجعلين، فلا يغنى أحدهما عن الآخر في الجعل التشريعي.

ثم من الفوارق بين الجعل التكويني والجعل الشرعي، أنّ الجعل في الأسباب التكوينية يتعلق بذات المسبب وفي ولكن في الأسباب الشرعية يتعلق لوصف السببية وليس ذات المسبّب.

مثال ذلك: لو فرض فيما لو قال القائل لزوجته (ظهرك كظهر أمي) فليس عند العقلاء محرّماً، بل الشارع جعله محرّماً أي سبباً لحرمة زوجته، فالجعل لم يتعلق بذات اللفظ، بل تعلق بوصف السببية، أي صيره الشارع سبباً للتحريم بعد ما لم يكن سبباً لعدم حرمة ذلك عند العقلاء، فليس الجعل تعلّق بالسبب وينتزع منه وصف المسببية فيكون إنتزاعياً كما هو المشهور، فليست جملة (ظهرك كظهر أمي) متعلقة للجعل الشرعي بل هي موضوعة بالوضع اللغوي إلّا أنّ الشارع أعطى لتلك الجملة وصف السببية في إفتراق الزّوجين بعدما لم يكن لها سابقة عند العقلاء ولم يكن محرّماً عندهم.

وبعد هذا التوضيح فلو دار الأمر بين الأقل والأكثر في الأسباب الشرعية فإنّ مقتضى التحقيق القول بالإشتغال وعدم جريان البراءة العقلية والشرعية في المشكوك الزائد، أمّا عدم البراءة العقلية، فإنّه بإعتبار تعلق الأمر بالمفهوم المبين في المسبب، فالمسبب معلوم وإنّما الشك في سقوطه بالأقل فلا تجري البراءة العقلية.

وربما يقال توهماً: أنّه بعدما كانت سببية السبب والمسبب مجعولين، والمفروض أنّ ما وقع تحت البيان في ناحية السبب إنّما هو الأقل، وعنه لو شك في دخالة شيء فيما إعتبره الشارع فمع عدم وصول ذلك إلى المأمور بعد الفحص لو أراد المولى العقاب لكان عقاباً بلا بيان، فنجرى البراءة العقلية في الجزء المشكوك.

وأجيب عنه: أنّ المكلف وإن كان في فُسحة من ناحية السبب بجريان البراءة العقلية في سببية الجزء المشكوك فيه ولكن من ناحية المسبب ليس الأمر كذلك لإقامة الحجة عليه بعد كون مبيّناً، ولا يصّح رفع اليد عن الحجة إلّا بحجة أخرى، فإذا حكم العقل بقبح العقاب في ناحية السبب، فإنّه لا يكون حجة على المسبب.

فمرجع الشك في المسبب هو إشتغال الذمة وفراغها لكون المسبب كان مفهوماً مبيّناً، فالأصل الإشتغال وليست البراءة العقلية وكذلك الأمر في البراءة الشرعية فلا مجال لها بعد كون المسبب معلوماً ومبيناً، فالأصل في باب الأقل والأكثر في الأسباب الشرعية هو الإشتغال، ولا مجال بجريان البراءة العقلية والشرعية، فتأمل.