عطفاً على ما سبق: فيما لو دار الأمر والشك في الأسباب المحصلّة بعد كون المأمور به معلوماً والكلام في الأسباب الشرعية فهل يقال بالبراءة أو الإحتياط.

ربما يقال بالبراءة الشرعية في الأسباب الشرعية

بيان ذلك مختصراً: إنّ السببية والمسببية في المسائل الشرعيّة أو الأمور الإعتبارية العقلائية ليست بنحو تكون الأسباب موثرة حقيقة في المسببات كما كان في التكوينّيات بحيث لم يكن المسبب قبل وجود سببه موجوداً في الخارج، فلم يكن كالعلة والمعلول بنحو إذا وجدت العلّ’ وجد المعلول، فلا وجود المعلول قبل وجود علته في الممكنات كما هو واضح.

كما ليس معناه تأثير الأسباب في إيجاد المسببات في عالم الإعتبار، لا عند العقلاء ولا عند الشارع الموجد للسبب، لأنّ إعتبار العقلاء أمر قائم بأنفسهم وله أسبابه الخاصة، فليس إنشاء الموجد للسبب علّة مؤثر في وجود المسبب.

بل معنى السببية والمسببية في الأمور الإعتبارية العقلائية والشرعيّة، أنّ الأسباب كصيغة النكاح في إيجاد العلقة الزوجية أو البيع في النقل والإنتقال إنما هي موضوعات لإعتبار العقلاء أو الشارع.

فإذا قال الرجل: بعث داري من زيد بكذا من المال. فإن قوله هذا بما له من المعنى الإنشائي وبداعي الجدّ صار موضوعاً لإعتبار العقلاء بأن الدار التي طالت مضافة إلى البائع قبل إنشاءه بالإضافة الإعتبارية صارت مضافة بل المشتري بواسطة إنشاء البايع وبيعه له، فالبائع إذا علم إعتبار العقلاء عقيب إنشائه السجدي للبيع، ويؤيد بيع داره من زيد، فإنّه يستعمل العقد والصيغة ويريد تحقق المعنى الإعتباري من النقل والإنتقال فيكون موضوعاً لإعتبار نفسه ولسائر العقلاء.

فإذا إستعمل البائع مثلاً لفظاً موضوعاً للإنشاء وكان بداعي تحقق المنشأ، فإنّ اللفظ يصير بماله من المعنى العقلائي أو الشرعي موضوعاً للإعتبار والعقلائي من غير أن يصير اللفظ علّة لتحقق الإعتبار، ولا لتحقق شيء آخر.

وبعد هذا يقال: إنّ المجعولات الشرعية في باب الأسباب والمسببات ليست على نحو واحد بل على أقسام: فإنّه تارة يكون إمضائياً، أي إمضاء للسبب والمسبب العقلائي، وسببيتهما للمسبّب الإعتباري، ولم يتصرف فيه إلّا تصرفاً قليلاً من زيادة جزء أو شرط.

وأُخرى: يكون سلب السببية عن الأسباب العقلائية وحصر السببية في سبب واحد كما في الطلاق الشرعي، فإنّ الطلاق بمعنى هجران الزوجة، والزوجية أمر عقلائي كسائر الأمور العقلائية مما تعارف عليه العقلاء في أي ملّة ونحلة، والشارع لم يتصّرف في تلك القضية العقلائية، وإنّما تصرّف في سببها أولاً، وسلب السببيّة عن الأسباب الأُخرى المتعارف عليها .

عند العقلاء بما هم عقلاء، وردعهم عن ترتيب الآثار على تلك الأسباب كما في النهي عن بيع الربا بعد أن أطلق جواز البيع بما عند العقلاء في قوله (أحل الله البيع وحرّم الرّبا) ففي الطلاق حصر السببية على لفظ خاص وهو (هي طالق) فاعتبر السببية في الطلاق بهذه اللفظة دون غيرها، فخلع سائر الأسباب عن السببية من دون أن يتصرف في المسبب وهو الطلاق والهجران الزوجي، فحصر السببية على لفظ خاص وهو (هي طالق).

وثالثة: وربما الشارع يذهب إلى السببية والمسببية ممّا ليس له عند العقلاء من عين وأثر، كما في باب الضمان فإنّ الشارع قال بحصول الضمان بمجرد وضع اليد المستفاد من قاعدة اليد (على اليد ما أخذت حتى تؤدي) وهذا ممّا ليس بين العقلاء من أكثر وعين.

ورابعة: ربما يكون السبب الشرعي من المخترعات المحضة التي ليس لها سابقة عند العقلاء، كالظهار، كما لو قال الزوج لزوجته: ظهركِ كظهر أمي، فإنّ الشارع جعل هذه الكلمة سبباً لحرمة زوجته، مع أنه لم يكن لهذا الأمر سابق عند العقلاء.

ثم هل في المخترعات الشرعية يتعلق الجعل بكلّ واحد من السبب والمسبب أو يكفي لغلقه بأحدهما ؟ في المسألة وجهان بل قولان وللحديث صلته إن شاء الله تعالى.