لقد إشتهر على لسان الأصوليين والفقهاء أنّ بعض أقسام الإستصحاب حاكم ويقدّم على النقيض الآخر، فيما لو كان الإستصحاب في الآخر سبب عن الإستصحاب في الأول.

مثال ذلك: إذا غسل الثوب النجس بماء مستصحب الكُريّة ، فإنه يشك في طهارته، وعنده إستصحاب النجاسة كما عند إستصحاب الكريّة فيما كان مشكوكاً فيه، فالشك في طهارة الثوبة ونجاسته مسبب عن الشك في كريّة الماء المغسول به فإنّه عند جريان الأصل الإستصحاب في كُرية الماء يرفع الشك عن طهارة الثوب ولاشك في طهارة الثوب حينئذٍ بعد جريان إستصحاب الكرية، وهذا ما عرف عنهم بأن الأصل السببي مقدّم على الأصل المسببي.

ويقع الكلام عندئذٍ في وجه ودليل تقدم الأصل السببي على الأصل السببي، فهل ذلك من جهة الحكومة أو من جهة أُخرى؟ لأن مجرد كون الشك في أصل متقدم على أصل آخر متأخر رتبة لا يعني ولا يوجب حكومته عليه، كما لا يصير رافعاً لشكّه والوجه في ذلك كما قيل: إنّ الحكومة قوامها إنّما هو بإعتبار لسان الدليل، وأن يكون أحد الدليلين بلسانه متقدماً على الدليل الآخر.

مثال ذلك: في حجية الخبر الواحد الثقة وتقدّمه على الأصل الإستصحابي حكومةً، فإن مقتضى ما ورد في دليل حجية الخبر الواحد الثقة كما في قول السائل للإمام× عمّن أخذ معالم ديني؟ فقال×: عن زكريا بن آدم القمي المأمون إلى الدين والدنيا ^([1]).

وأمّا دليل الإستصحاب فقوله× (لا تنقض اليقين بالشك بل انقضه بيقين آخر) فإنّ لسان الدليل الأول من اليقين الرافع للشكّ.

والمثال الآخر في قوله×: (لا سهو لمن أقرّ على نفسه بالسّهو) ^([2]) ، أي لا شك لكثير الشك فإنّ لسانه حاكم على أدلة الشكوك المعتبرة، وأن أحكام الشك عند كثرة الشك مما لا أثر له.

وهذا المعنى من الحكومة لا يكاد يجري في الأصل السببي والمسببّي، لأن دليل الإستصحاب هو قوله×: (لا تنقض اليقين بالشك)^([3])، والمعنى أنه لا يُعتنى فيما إذا شك في بقاء الشيء في الزمان المتأخر بل يبني على ما كان في الزمان المتقدم (ابق ما كان على ما كان) لوحدة الموضوع في القضية المتيقنة والقضية المشكوكة.

ولمّا كان الشك في كل من السبب والمسبب قد حدثا في عمود الزمان دفعة بلا تقدم ولا تأخر، فإنّه يشملهما دليل الإستصحاب دفعة واحدة كذلك في عرض واحد، وليس في طول الآخر حتى يقال بالحكومة، بل لما كان في عرض واحد يشملهما دليل الإستصحاب الواحد فإنه لا يقبل حكومة أحدهما على الآخر، فقوله×: (لا تنقض اليقين بالشك) كما يشمل إستصحاب كريّة الماء في عرضه يشمل إستصحاب طهارة الثوب  المنسوب به، وحينئذٍ يلزم التّعارض بين الإستصحابين.

فمفاد الإستصحاب هو الحكم ببقاء المتيقن عند الشك من دون إنحلال إلى المصاديق وهذا العنوان كما ينطبق على الأصل السببي ينطبق الأصل المسببي في عرض واحد.

فمفاد كل من الإستصحابين الحكم ببقاء الكرية وبقاء النجاسة، وليس مفاد الإستصحاب نفي إستصحاب النجاسة ولا يكون لسان أحدهما مقدّم على الآخر.

فعليه ليس تقدم الأصل السبّبي على المسببي من جهة حكومة أحد الإستصحابين على الآخر بل من جهة أخرى وهي أن الأصل السببي ينفتح لنا موضوع الدليل الإجتهادي، والدليل الإجتهادي بطبيعة الحال يقدّم على الدليل الفقهاتي وهو الأصل المسببي في المقام بيان ذلك يأتينا إن شاء الله تعالى.