عطفاً على ما سبق، في الترخيص في بعض أطراف المعلوم بالإجمال على نحو التخيير الإبتدائي، فإنّه أنكر المحقق النائيني قدس سره ذلك أيضاً إلّا أنه بوجه آخر غير ما ذكر من الوجوه التي مرّت وهو: أما أن يكون من جهة الكاشف أو من جهة المنكشف وكلاهما ممّا لا شاهد لهما في أدلة الترخيص في الأصول العملية.

بيان ذلك: أنّ جميع الموارد التي يقال فيها بالتخيير فيما لم يقم دليل عليه بالخصوص كالتخيير العقلي فإنه لا يخلو من أحد أمرين:

الأول: أن يكون ذلك من ناحية إقتضاء الكاشف والدليل الدّال على التخيير في العمل.

والثاني: أن يكون من ناحية المنكشف والمدول، وإن كان الدليل يقتضي التعينيّة، وكلاهما ممّا لا شاهد لأدلة الأصول عليهما لا من ناحية الكاشف ولا المنكشف.

أما الاول: لأنّ التخيير من ناحية إقتضاء الكاشف والدليل فيما إذا ورد عام كقولك: أكرم العلماء، وعلمنا بخروج زيد وعمر ومن العام ولكن نشك في أن خروجهما هل هو على وجه الإطلاق بنحو لا يجب إكرام كل واحد منهما مطلقاً في أي حال من الأحوال أو خروجهما لم يكن مطلقاً بل كان مشروطاً بحال عدم إكرام الآخر، بمعنى أن عدم وجوب إكرام كل منهما مقيد بحال إكرام الآخر، بنحو يلزم من خروج أحدهما عن العموم دخول الآخر فيه، فيرجع الأمر عندئذٍ بين كون المخصص (اكرم العلماء إلا زيد وعمرو) هل هو أفرادي وأحوالي لو كان خروجهما عن العموم على نحو الإطلاق، أو خروجهما أحوالي، لو كان خروج أحدهما حال دخول الآخر، فهنا لابّد من القول بالتخيير في إكرام أحد الفردين وترك الآخر فإما أن يكرم زيد ويترك اكرام عمر وحتى يدخل في التخصيص أو بالعكس فيخيير في ذلك، ولا يخفى أن الحكم بالتخيير في مثل هذا الفرض إنما كان من جهة إجتماع دليل العام وإجمال دليل الخاص أولاً، وثانياً بضميمة وجوب الإقتصار على القدر المتقين في التخصيص، فاجتماع هذه الأمور أدّى غلى القول بالتخيير في مقام العمل،  وليس هذا التخيير من جهة المجعول والمدلول بل المجعول في كل من العام والخاص هو الحكم التعييني، ولكن التخيير إنما نشأ من ناحية الدليل والكاشف وليس المدلول والمنكشف.

وأمّا الثاني: اي التخيير غنما يكون من ناحية المدلول والمنكشف فذلك في المتزاحمين في مقام الإمتثال لعدم القدرة على الجمع بينهما كما في مفروض المسألة في المتزاحمين، فإنّ التخيير العقلي في باب التزاحم لأجل أن المجعول في باب التكاليف بنحو يقتضي التخيير في إمتثال أحد المتزاحمين، لأنه يعتبر في المجعولات الشرعية القدرة على إمتثالها لأنه يقبح عقلاً وشرعاً تكليف العاجز، ومن ثم من الشرائط العامة في التكاليف الشرعية القدرة على العمل، والمفروض حصول القدرة على كل من المتزاحمين ولكن بشرط ترك الآخر، ولا موجب لتعيين القدرة في إمتثال أحدهما بالخصوص فإنه من الترجيح بلا مرجح فالعقل يستقل بصرف القدرة إلى أحدهما لا على التعيين وهذا معنى التخيير العقل في المتزاحمين، ولم ينشأ من ناحية الدال على وجوب كل منهما، بل نشأ من ناحية المدلول والمنكشف.

والفرق بين الاول والثاني: أن التخيير الذي يكون من جهة الدليل إنما هو من التخيير الظاهري، وأمّا الثاني فهو من التخيير الواقعي، ولا شاهد للقول بالتخيير في الأصول العملية لا من جهة الدليل ولا من جهة المدلول وهذا ما يأتينا ويأل ما أورد عليه من النّظر، فراجع : (فوائد الأصول: 4: 28) لنقف على ما يقوله المحقق النائيني قدس سره في هذا الباب.