يقع الكلام عطفاً على ما سبق: في بيان الوجوه المحتملة في القول بالترخيص بأطراف المعلوم بالإجمال تمسكاً بروايات الدالة على الترخيص كما في الأصول العملية كقوله عليه السلام كل شيء لك حلال حتى تعرف الحرام بعينه من توجه الثالث فقيل يجوز ذلك قياساً بباب التزاحم في مقام الإمتثال.

بيان ذلك: قيل في باب التزاحم أن التكليف والخطابات الشرعيّة قد تعلق بإنقاذ الفريقين على حدّ سواء، إلّا أنه بعد القول بعدم تمكن المكلف من إنقاذهما معاً في مقام الإمتثال، وإنما يتمكن من أحدهما دون الآخر، فإن كان أحدهما أهم كما لو كان نبيّاً مع مؤمن، فإنّه يقدّم الأهم،وإن كانا على حدّ سواء، فإنه يكون مخيراً بينهما إبتداءً لا إستدامة حتى يلزم الإذن في المعصية إرتكابهما ولو بالتدريج.

فعدم إمكان أحدهما لا يوجب سقوط الخطاب، بل غاية ما هنالك هو تقييد إطلاق أحدهما بإتيان الآخر، أي يأتي بأحدهما لو لم يأت بالآخر لا على التّعيين.

فقوله أنقذ كل غريق له عموم أفرادي فيشمل كل الأفراد والموارد، كما لو إطلاق أحوالي بالنسبة غلى حالتي إتيان الأفراد وعدمه، وعند التزاحم وعدم إنقاذهما معاً لا وجه لسقوط الخطابين فليس كالمتعارضين فإنهما بعد تكافتهما يسقطان، بل يسقط أحدهما لعدم المزاحمة بينهما مع وجود الملاك فيهما، بل المزاحمة في الجمع بينهما أما أحدهما دون الآخر فلا محذور فيه، فإن إنقاذ أحدهما حال ترك الآخر من الممكن، فلا مزاحمة في شمول الخطاب وعمومه لكل فرد، نعم إنما المزاحمة في إطلاق الخطابات، فيرفع اليد عن الإطلاق في الخطاب دون عمومه.

وكذلك الأمر في أدلة الأصول، فإنّه قوله عليه السلام: (كلّ شيء لك حلال) له عموم أفرادي بالنسبة إلى كل مشتبه كما في الشبهات البدوية، وله إطلاق أحوالي بالنسبة إلى حالات المشتبه، كل مشتبه ماذون فيه فيما لو كان بدوّياً سواء أتى المكلف بالطرف الآخر أملا، وأمّا في أطراف العلم الإجمالي، فإنّه مأذون كذلك إلّا أنّ المزاحمة بين الأطراف، والمزاحمة بين إطلاقهما لا في أصلهما، فالترخيص في كلّ طرف حال ترك الطرف الآخر ممّا لا مانع منه، وإنّما يرفع اليد عن إطلاقهما دون أصلهما ونتيجة ذلك الأذن في كل منهما إلّا أنه مشروط بترك الآخر، وهذا معنى الترخيص التخييري كما مرّ.

فظهر أنّ نسبة أدلة الأصول إلى  كل واحد من الأطراف كالمتزاحمين في مقام الإمتثال.

وأورد على هذا التقريب والوجه:

بأن مفاد هذا التقريب إنما يتّم لو ورد مثل هذه العبارة في النصوص (كل شيء لك حلال حتى تعلم الحرام بعينه) وكان صحيح السند واضح الدلالة، ولكن إنما ورد هذا المعنى في موثقة مسعدة بن صدقة ـ كما مرّ ـ إلّا أنه من حيث الدلالة تذكر قد ذكرنا ما قيل من الإحتمالات المتعددة والأمثلة المذكورة في النص ممّا يوجب عدم الإعتماد على الكبرى المذكور في الموثقة من أنه كل شيء لك حلال، فلا يصّح الإعتماد على ظهورها في الترخيص في الشبهات مطلقاً.

وأمّا الوارد في خبر عبد الله بن سنان، فإنّه وإن كان صحيح السّند إلّا أنه ورد فيه قوله عليه السلام (كل شيء فيه حلال وحرام فهو لك حلال) وليس فيه العموم الأفرادي ولا الإطلاق الأحوالي، بل يدل على أنه ما كان مخلوطاً بالحلال والحرام فهو لك حلال حتى تعلم الحرام سن بين المخلوطين بعينه، فالموضوع للحلّية في الخبر الصحيح هو نفس الذي فيه الحلال والحرام وهو المخلوط بهما، وليس كل فرد محكوم بالحلية، وعندئذ لو كان الإطلاق الأحوالي في المختلط أيضاً لكان معنى الخبر أن هذا المختلطمن الحرام والحلال محكوم بالحلية سواءاً كان الطرف الآخر محكوماً بها كذلك أم غير محكوم، فلو قيل بالتقييد بحكم العقل كانت نتيجة التقييد حلية هذا المختلط بشرط أن لا يأتي بالطرف الآخر، وإلّا لزم الإذن في المعصيّة، وهذا خلاف المطلوب.

فلا يقال أن مقتضى الإطلاق الأحوالي أن أحد جزئي المختلط محكوم بالحليّة سواء أكان الطرف الآخر محكوماً بها أو غير محكوم بها وتكون النتيجة حينئذٍ بحكم العقل هو التخيير كما كان في المتزاحمين المتساويين ، من جواز إرتكاب أحدهما عند ترك الآخر، لأن الجزء الآخر في المختلط ليس محكوماً بحكم حتى يقع في مصب الإطلاق والتقييد، فتأمل.