عطفاً على ما سبق في بيان من يقول بالترخيص في طرف من المعلول بالإجمال دون الطرف الآخر فلا تجب الموافقة القطعية تمسكاً بإطلاق وهموم أخبار الترخيص في الأصول العملية، فقد قرّر ذلك بوجوه، وقد مرّ الوجه الأول وما يرد عليه وجواب ما يرد بحيث قيل أن قوله عليه السلام في أخبار البراءة والحليّة: (كل شيء لك حلال حتى تعرف الحرام بعينه) مطلق وعام يشمل الترخيص في أطراف العلم الإجمالي كما يشمل الشبهات البدوية، إلّا أن شموله لكل الأطراف فيه محذور عقلي وهو الغذن في المعصية، ولكن في الترخيص في طرف دون آخر فلا محذور عقلاً فيه، ويبقى أن الترخيص في أحد الأطراف لا بعينه لأنه لو كان معيناً للزم ترجيح بلا مرّجح فإطلاق أخبار الترخيص في الأصول العملية لا تنصرف عن هذا الطرف في العلم الإجمالي لا بعينه فيكون حكمه حكم الشبهة البدويّة، فيحكم بخروج واحد لا بعينه عن العموم والباقي يدخل تحت عمومه حفاظاً على أصالة العموم فيما لم يدل دليل على التخصيص والتّقييد.

ولكن اجيب عن هذا الوجه والترتيب (بأن البعض غير المعين لا يكون موضوعاً للعام من أوّل الأمر حتى يحفظ العموةم بالنسبة إليه لأنّ موضوعه هو الممعينات لا المبهمات، والحكم في المبهم يحتاج إلى دليل آخر)^([1])،وعدم الدليل دليل العدم.

الوجه والتقريب الثاني: إنّما يقال بالترخيص في طرف من أطراف العلم الإجمالي من باب التخيير العقلي.

بيان ذلك: كما في خطابي المتزاحمين في مقام الإمتثال كإنقاذ الغريقين، فإنه عند عدم القدرة والطاقة إنقاذهما معاً في مقروض المسألة فالخطابان لا يشملهما معاً لقبح التكليف بما لا يطاق، ولكن لما كان ملاك الوجوب موجوداً في كل من الغريقين فإنّ العقل يكشف خطاباً ثالثاً في المقام وهو التخيير المسمى بالتخيير العقلي بإنقاذ أحدهما لا على المتعين إذ أنه على المتعين ترجيح بلا مرجح، نعم لو كان أحدهما أهم من الآخر فإنّه يقدّم نجاته وإنقاذه على الآخر، من باب التزاحم ورعاية الأهم فالمهم.

فأدلة الترخيص وإن لم تشمل كل الأطراف سوية إذ يلزمه الأذن في المعصية إلّا أنه يشمل البعض دون البعض لوجود ملاك الترخيص والإباحة في كل واحد منهما من دون الإنضمام إلى الآخر، وتقديم أحدهما على الآخر ترجيح بلا مرجح فيكون الإنسان مخيراً في أطراف العلم الإجمالي باختيار طرف دون الآخر.

وربما يقال في مقام الإشكال على هذا الوجه والتقرير والتقريب بأنّ العدلية من المعتزلة والشيعة يقولون بوجود المصالح في الأوامر والمفاسد في النواهي، فالأحكام الإلهية في الواقع ونفس الأمر إنما هي تابعة لوجود الصمالح والمفاسد في عالم الثبوت، ولا طريق لنا لإستكشاف ذلك لا من طريق الأدلة الظاهرية والخطابات الشرعية في مقام الإثبات، ومع سقوط الخطابين في التزاحم كيف نستكشف ونحزر وجود الملاك حتى يقال بحصول خطاب عقلي يقول التخيير فلا دليل لنا على الإطلاق بوجود ملاك الوجوب في كليهما بعد سقوط الخطابين بالتزاحم والتعارض.

ولا يخفى قياس المقام بالفريقين قياس مع الفارق إذ إنقاذ أحدهما لا على التعين أن لم يكن الأهم إنما يعلم ذلك في دليل خارجي آخر لا من ناحية الخطابين وسقوطهما والقول بالتخيير العقلي.

ولكن أجيب عن هذا الإشكال: بأنه وإن لم يكن لنا طريق إلى إحراز الملاكات (المصالح والمفاسد) إلّا من جهة الأوامر والنواهي في مقام الإثبات والأدلة الظاهرية، ولكن سقوط الخطابين في أطراف العلم الإجمالي أو عند التزاحم ليس من جهة التصور في الأدلة وفي شمولها وإطلاقها للمتزاحمين أو اطراف العلم الإجمالي أي المعلول بالإجمال بل كان ذلك من جهة العقل بعدم إمكان الجمع بينهما إذ أنه كما هو المفروض خارج عن القدرة والطاقة، واختيار أحدهما، في التعيين ترجيح بلا مرجح، فمن ثم يقال: بالترخيص في الأطراف على التعيين، وهذا من التقييد العقلي، مقدم شمول الخطابات إنما كان لمحذور عقلي وليس من جهة القصور في الأدلة في الشمول والعموم، فلا سبيل لعدم إحراز الملاك عند سقوط الخطاب في أطراف المعلوم بالإجمال وعند التزاحم.

ولكن يمكن الجواب عن أصل الوجه الثاني المذكور بالفرق بين مسألة إنقاذ الفريقين وبين ما نحن فيه، وذلك أنّ الحكم بالتخيير إنما كان من جهة العقل وإنما يكون ذلك لو قطعنا بأن الجري على طبق أحدهما أي على طبق أحد الإقتضائين لا مانع فيه كما هو الحال في مسألة الفريقين، ولكن فيما نحن فيه ليس كذلك، فإنّ الشك كما يتقضي الترخيص كما في الشبهات البدوية فكذلك العلم الإجمالي يقتضي القول بالإحتياط والإشتغال وإفراغ الذمة برعاية كل الأطراف، ولعل العمل بالعلم الإجمالي عند الشارع أقوى من الترخيص والبراءة، فلا وجه للقول بأن العقل قاطع بالترخيص فتأمل.

وزبدة الكلام: أنه بعد سقوط أدلة الترخيص في أطراف العلم الإجمالي وإقتضاء العلم الإجمالي الإحتياط، فإن ذلك يمنع عن إستكشاف العقل للحكم التخييري، فإن العقل وإن كان عند المقتضى للقول بالتخيير إلّا أنه ينفذ مع عدم وجود المانع، والحال مع المانع وهو الإحتياط في العلم الإجمالي لا مجال للقول بالتخيير العقلي فتدبّر.