عطفاً على ما مرّ: في اللباس المشكوك يقع الكلام في الأصول الحكميّة فهل يُتمسك بأصالة الإشتغال أو أصالة البراءة أو أصالة الحل في نفس الصلاة.

أقول: إنّما يتمسك بالأصول العملية الحكمية لو لم يتّم التمسك بالأصول العملية الموضوعيّة، والمفروض كما هو المختار جواز الدخول في اللباس المشكوك وصحة الصلاة تمسكاً بالإستصحاب العدمي ولو الإستصحاب العدم الأزلي، ولكن لو لم يتّم ذلك الأصل فحينئذٍ نرجع إلى الأصول الحكميّة.

ثم مقتضى القاعدة إذا لم يثبت جواز الدخول في الصلاة باللباس المشكوك وصحة الصلاة هو الرجوع إلى قاعدة الإشتغال وأنّه لابّد من القطع بوقوع الصلاة في غير ما لا يؤكل لحمه، ولا ريب أنّ الإشتغال اليقيني يوجب البراءة اليقينية، فيجب إحراز الإمتثال وتفريغ الذّمة: بإتيان المأمور به بتمام شرائطه وعدم موانعه، وغذا يجب إحراز الشرط وإذا فقد فقد المشروط كذلك يجب عقلاً إحراز عدم المانع ولو كان ذلك من جهة أصالة عدم وجود المانع كما مرّ تفصيله، والسّر في ذلك أنه لابّد من إحراز المأمور به شرائطه وعدم موانعه فلا فرق في القيد والقيود بين القيود الوجودية كالشرط أو العدمية كعدم المانع.

وقد إستدل على جواز الدخول في الصلاة باللباس المشكوك تمسكاً بالأصل الحكمي بوجهين:

الأول: تمسكاً بأصالة الحُل في نفس الصلاة وذاتها.

بيان ذلك: إنّ الصلاة من جهة وقوعها في المأكول وغير المأكول تكون ذات فردين: حلال وحرام، وعند الصلاة باللباس المشكوك يشك أنها من الفرد المحرّم أو المحلل، فيدخل تحت عموم قوله عليه السلام: (كلّ شيء فيه حلال وحرام فهو لك حلال حتى تعرف الحرام منه بعينه) وكذلك الأخبار الأخرى في هذا الباب ممّا يدل على أصالة الحل وعلى أصالة الإباحة.

وأورد عليه: أن المراد من الحرمة المحتملة في اللباس المشكوك أمّا أن تكون الحرمة الذاتية أو الحرمة التشريعيّة والبدعة، والأول مقطوعة العدم، فإنّ مجرد الصلاة فيما يقطع أو يشك بكونه من غير المأكول ليس بنفسه من المحرمات الإلهية والثاني: لو صلى في المشكوك بقصد رجاء المطلوبية لإحتمال الجواز أو لإحتمال عدم كونه من غير المأكول، ثم يصلي وهو قاصد لأن يحقق بعد الصلاة ولو إنكشف إلى أن يعيد الصلاة، فلا يحتمل الحرمة عندئذٍ ما دام بقصد الرجاء والبناء على التحقيق وأنه لو تبين الخلاف أعاد.

وإذا صلّى بالمشكوك لا بقصد الرجاء بالجواز بل بنية الجزم وإنتسابه إلى المولى فهذا يكون من التشريع المحرم وإدخال ما ليس من الدين في الدين فهو محرم قطعاً، فلا يحتمل الجواز حتى يكون مشكوك الحلية ويرجع فيه إلى أصالة البراءة.

وبعبارة أخرى: ذات الصلاة من دون إضافة إلى المولى محلّل قطعاً، ومع إضافة رجائية كذلك محلل، وأمّا مع الإضافة الجزمية فهي محرّمة قطعاً، وعلى كل التقادير لاشك في المقام حتى يتمسك بأصالة الحل.

الثاني: تمسكاً بأصالة البراءة.

بيان ذلك: كما ثبت في الأصول (أصول الفقه) أنّ الشك تارة في التكليف فهذا مجري أصالة البراءة وأخرى في المكلف به فهذا مجري أصالة الإشتغال، والشك في الأوّل يرجع إلى أصل ثبوت التكليف والأصل فيه البراءة العقلية والشرعية والثاني يرجع الشك إلى مقام الإمتثال والخروج عن عهدة التكليف الثابت بعد العلم بفعليّته ووجوده، فهذا يجري فيه الإشتغال فإنّه من الشك في المكلف به.

ثم لا يكفي في تنجيز التكليف مجرد العلم بالجعل المولوي للقاعدة ولبيان الكبرى، بل لابّد من الإنضمام إلى الصغرى أيضاً فالعلم بالكبرى والقاعدة بوحدة لا يصلح للبحث والتحريك بالضرورة، فالعقاب على مخالفته قبل تحقق الصغرى عقاب بلا بيان.

ونتيجة ذلك أنّه في التكاليف والأوامر والنواهي الإنحلاليّة كحرمة شرب الخمر ونحو ذلك لا يكون التكليف فيه منجزاً فيه البعث والزجر إلّا بعد وصول الكبرى منضمة إلى الصغرى، فلو وصلت إحدهما دون الأخرى كأن، علم بحرمة شرب الخمر ولكن لم يعلم أنّ هذا المائع الخارجي خمر أو خلّ، أو علم بخمريته ولكن لم يعلم بحرمته، في هذين الصورتين لم يتحقق تنجيز التكليف، ومعه يكون المورد مجرى لأصالة البراءة الشراعية والعقلية.