الفصل الثاني

 

فلسفة الأحكام وأسرارها

 

 

 

 

الفصل الثاني : فلسفة الأحكام وأسرارها   

 

 

 

بسم الله الرّحمن الرّحيم

 

المقصود من السرّ وما يرادفه كالخفاء والبطن ما يقابل العلن ، والعلن بمعنى الظاهر والبيّن والواضح ، فالسرّ يكون من الباطن وما فيه الغموض وعدم الوضوح لكلّ واحد، بل يعرفه من كان من أهله ، وكل سرّ جاوز الإثنين ـ بمعنى الشخصين أو الشفتين ـ شاع وذاع ، أي صار شائعاً وعلناً بعد ما كان مكتوماً وسراً في الصدور، ويطلق السرّ على الحكمة لكونها مستورة ، وما وراء العلم من الفهم والمعرفة .

والفلسفة : كلمة يونانيّة مركّبة من (فيلا) و(سوف ) أي محبّ الحكمة ، وكان في القديم يطلق على مجموع العلوم ، ثمّ أُطلق على العلوم العقليّة ، واليوم يطلق أيضاً على المعرفة والحكمة في كلّ شيء.

ثمّ في الفلسفة والأسرار إنّما يكون الحديث عن الأسباب والعوامل على نحو الاقتضائيّة والعلّة الناقصة ، فيكون من الشرط اللازم لحصول المعلول ووجوده .

وأمّا فلسفة الأحكام وعلل الشريعة ، فانه يقصد منها ما كان وراء الفقه من الاُمور الخفيّة أو الأسرار والمعرفة الخاصّة ، وإنّه فرق بين العلم والمعرفة ، فان العلم بالكليّات بينما المعرفة بالجزئيّات ، وإن العلم بالظاهر بينما المعرفة أعم من الظاهر والباطن ، فالأحكام الشرعيّة الفرعيّة يستنبطها الفقيه من الأدلّة التفصيليّة من الكتاب الكريم والسنّة الشريفة والاجماع والعقل ـ عند الاُصوليّين من أتباع مذهب أهل البيت  : ـ وإنّما يبيّن في فتاويه الحكم الظاهري بينما العارف بالله يتجاوز ذلک ليصل إلى ما وراء الفقه والحكم الظاهري من الحِكم والأسرار الخفيّة ، فالفقه قبل الحكم والأسرار بعد الحكم ، والأوّل يسمّى بالفقه الأصغر، بينما الثاني يسمّى بالفقه الأكبر، والأوّل يوجب سقوط التكليف الشرعي ، بينما الثاني يوجب القبول ورفع الدرجات (يَرْفَعِ آللهُ آلَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَآلَّذِينَ أُوتُوا آلْعِلْمَ دَرَجَاتٍ )[1]  ثمّ الانسان بطبيعته وغرائزه يريد أن يستطليع ويكشف الرموز

ويفکّ الأسرار بمفاتيح ذهنه الوقّاد، فيتولّد في ذهنه أسئلة كثيرة ، وهذا ما نلاحظه في مناسک الحجّ ، فلماذا هذه الطقوس الدينيّة ، فانّها وإن كانت عباديّة ومن فلسفتها الإطاعة والاختبار، إلّا أنّ الأمر أوسع من ذلک ، فمن وراء كلّ منسک مئات الأسرار والحِكم ، لو وقف العابد عليها لتوجّه إلى روح عبادته أكثر فأكثر، كما يطمئن قلبه أكثر، كمن علم مقصد سفره في حركته ، كما يتحمّل المصاعب والمتاعب أكثر فأكثر، ويساعده إلى نيل أهدافه ومقاصده بغاية قصوى ، وإنّما نقف على أسرار الحجّ من منابع الثقافة الاسلاميّة ومصادرها.

أوّلاً: من القرآن الكريم . فإنه يهدى للتي هي أقوم ، لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلقه ، كتاب حق نزل من الحق وبالحق .

ثانياً: من الأحاديث الشريفة في مدرسة الرسول الأعظم محمّد  6 وأهل بيته الأطهار :.

ثالثاً: من العقل السليم والفطرة الموحّدة المتجذّرة فيها اُصول حبّ الخير والجمال والكمال .

رابعاً: من إبداعات وإبتكارات العلماء والعرفاء الأعلام في فهم النصوص ، ومن العلم الإلهامي المتجانس مع علوم السماء من الوحي والنص والخطاب الديني .

وكشف أسرار الحجّ كاستنباط أحكامه،فكلاهما من واديالاستنباط والكشف من الأدلّة التفصيليّة ، إلّا ان الفقه لبيان أحكام الحجّ ويكون قبل الحكم الشرعي ، ويحتوي على توسيع الحكم وتضيقه، ويتعلّق بظاهر الأحكام، بينما كشف الأسرار يكون بعد الحكم ، ويحتوي على إستخراج الآثار والحِكَم وبواطن الأحكام .

وساحة العقل في الأسرار أوسع من إستنباط الأحكام ، فاذا كان في إستنباط الحكم لا مجال للقياس والاستحسانات الظنيّة وانه يقبل بروح التعبدية المحضة ، والتسليم الخالص ، إلّا انه في كشف الأسرار لا مانع منه ، لعدم ترتّب أثر شرعي عليه .

ان القرآن الكريم كما يبيّن الحكم الشرعي كذلک يشير إلى فلسفته وحكمته ، فاذا أمر بالصلاة فانه قال سبحانه : (تَنْهَى عَنِ آلْفَحْشَاءِ وَآلْمُنكَرِ وَلَذِكْرُ آللهَ أَكْبَرُ)[2] .

 

وإذا أمر بالصيام فانّه قال عزّوجلّ : (لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ )[3] .

 

وكذلک الأمر في مدرسة أهل البيت وأحاديثهم الشريفة ، فانّه في الاُصول الأربعمأة كتب عديدة في بيان العلل والـحكيم ، منها:

1 ـ كتاب العلل لأحمد بن محمّد بن الحسين بن الحسن بن داود القمّي (رجال النجاشي : 90).

2 ـ كتاب العلل لأحمد بن عطّار (النجاشي ).

3 ـ كتاب العلل لعلي بن الحسين بن عليّ بن فضّال .

4 ـ كتاب العلل لعليّ بن سهل حاتم بن أبي حاتم القزويني .

5 ـ كتاب العلل لمحمّد بن خالد بن عبدالرحمان .

6 ـ كتاب العلل لمحمّد بن أحمد بن داود بن علي (شيخ القمّيين ).

7 ـ كتاب العلل لأبي هاشم داود بن القاسم الجعفري .

8 ـ علل الشرايع للشيخ الصدوق عليه الرحمة[4] .

 

ومن أمثلة السؤال عن العلل في الروايات .

عن أبي عبدالله 7 انّه سأل عن شيء من الحلال والحرام فقال : انّه لم يحصل شيء إلّا لشيء[5] .

 

وفي الحديث : «لِم صار الحاج لا يكتب عليه ذنب أربعة أشهر» «سألته عن التلبية لم جعلت » «لم سمّيت الكعبة كعبة » «لم سمّي البيت العتيق » «لم سمّي بيت الله الحرام » «لم جعل إستلام الحجر» «لم جُعل المقام بمنى ثلاثاً» «لم جعل السعي ...» ومثل هذه التعابير كثيرة في الروايات ، وإنها تدلّ بوضوح على أهميّة معرفة أسرار وفلسفة الحجّ ، وبيان حِكمه ومعارفه وبواطنه .

ولكلّ منسک وطقس ديني من العبادات الشرعية شكل ظاهري ، وشكل باطني ، ومن المؤسف أن عامّة الناس أخذوا من الشرع ظاهره وقشوره وجسده وقالبه ، أما قلبه ولبّه وباطنه وروحه ، فقد تغافلوا وتجاهلوا عنه ، وهذا الأمر ينعكس في أمورهم الدنيوية وفي المعاش ، فتراهم ينظرون إلى كلّ شيء بدقة وتفحّص ويركضون وراء كشف رموزه وبواطنه ، ونتيجة سعيهم الاكتشافات والاختراعات وتطوّر الحياة والصناعة التكنولوجيّة ، ممّا يوجب الحرص وطول الأمل وعشرات الأمراض الروحيّة والاجتماعيّة ، من التكالب والصراعات والحروب المدمّرة ، فليتهم معشار عشر من هذا السعي الدؤوب في كشف الحقائق الكونيّة الماديّة كان لكشف الحقائق الكونيّة المعنويّة والملكوتيّة .

وهذا لا يعني أن نتغافل عن كشف الحقائق الدنيويّة ، بل الدنيا مزرعة الآخرة ، والمفروض أن يكون المقصد الأوّل والهمّ الأساسي هو نيل الدرجات والجنات ورضوان الله جلّ جلاله في الآخرة ، وأن لا تكون دنيانا على حساب آخرتنا، بل ينعكس الأمر تماماً، وأن نطلب الآخرة ومقاماتها على حساب الدنيا، فنشتري مرضاة الله العظيم بمتاع الدنيا القليل ، وهذا من التجارة التي لن تبور، والخاسر خسراناً مبيناً من باع آخرته بدنياه ، والأكثر خسراناً من باع آخرته بدنيا غيره !!

فلابدّ من رعاية الظواهر والبواطن بأجلى وأتم مظاهر الرعاية ، وبكلّ قوة وإستحكام وإصالة وتسديد.

ومن يترک الظاهر فانه أولى به أن يترک الباطن ، والدنيا متجر أولياء الله ومزرعة المؤمنين لآخرتهم .

ومن ترک كلّ من الظاهر والباطن فقد ترک الاسلام ، فان للاسلام ظاهر وباطن .

الظاهر والباطن : لا يخفى ان لكلّ ظاهر باطن اذ بينهما التضايف من التقابل كالعلة والمعلول والاُبوّة والبنوّة ، فلا يكون الظاهر إلّا ومن ورائه باطن ، ولا يكون باطن إلّا ما كان له ظاهر، إلّا أنّ الباطن عند ما يظهر فانّه يدخل في دائرة الظاهر ويكون من وراءه باطناً آخر، وإذا ظهر ذلک كان ظاهراً، ولازمه أن يكون له باطن آخر، وهكذا إلى أن ينتهي إلى علم الله سبحانه الأزلي الأبدي السرمدي ، فهو الظاهر وهو الباطن ، وهو الأوّل والآخر، فيكون علماً بلا بداية ولا نهاية (وَقُل رَبِّ زِدْنِي عِلْماً)[6] .

 

ومن هذا المنطق قال أميرالمؤمنين علي  7: «علّمني رسول الله ألف باب من العلم ينفتح لي من كلّ باب ألف باب ».

فرب سرٍّ ينكشف منه ألف سر، ورب ظاهر ومن ورائه ألف باطن ، وينفتح من كلّ باطن ألف بطن ، ومن كلّ بطن ألف ألف سرّ وأخفى ، وإلى ربّک المنتهى ، فهو مطلق العلم ، والعلم المطلق ، جلّ جلاله .