الشهادة في القرآن الكريم

 

الشهادة في المصطلح القرآني كما في اللغة مع زيادة كما إتّضح ، فيكون بالوسائل التي تنتهي إلى الحضور والعلم ، فمن الوسائل ما يلي :

1 ـ الشهود بالباصرة : ومنه قوله تعالى : (وَلْيَشْهَدْ عَذابَهُما طائِفَةٌ )[1]  (وَالَّذيüنَ

يَرْمُونَ الُْمحْصَناتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَداءَ)[2] .

 

2 ـ الشهود بالسمع : كما في قوله تعالى : (شَهادَةُ بَيْنِكُمْ إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حيüنَ الْوَصِيَّةِ اثْنانِ )[3]  (أَمْ كُنْتُمْ شُهَداءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ )[4] .

 

 

3 ـ والشهود بالملامسة : كما في قوله تعالى : (شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ )[5] .

 

وإنّما أفردت الباصرة ، لأن العرف يرى أهميتها في مقام الشهادة والإشهاد، فالمحسوسات المشاهدة بالحواس الخمس الظاهرية تشاهد النفس بحضور صورها التي تنتقل من الحواس إلى الحس المشترک أوّلاً، ثم إلى الدماغ فتحصر الصور في الذهن ، ويسمى بالعلوم المحسوسة ، وهو أوّل مراتب المعرفة والعلم والمسمى بالعلم الحسي والمعرفة بآليات حسيّة ظاهرية وهو من العلم الحصولي .

4 ـ والشهادة المطلقة : كما في قوله : (وَلا تَكْتُمُوا الشَّهادَةَ )[6]  (وَالَّذيüنَ هُمْ

بِشَهاداتِهِمْ قائِمُونَ )[7] .

 

5 ـ والشهادة بالقوة المفكرة المتصرفة العقلية ، كما في قوله : (وَشَهِدَ شاهِدٌ مِنْ أَهْلِها إِنْ كانَ قَميüصُهُ قُدَّ مِنْ قُبُلٍ )[8]  (كُونُوا قَوّاميüنَ للهِِ شُهَداءَ بِالْقِسْطِ )[9] .

 

 

فيقال : إنّ في الذهن حواس خمس باطنية على شكل زاوية منفرجة . ورأس الزاوية الحس المشترک المسمّى ب  (القوة النبطاسية )، ثم الحافظة ، والمتخلّية ، والمتصرفة ، والعاقلة ، فإذا رُكّبت بعض ما في خزينة الخيال من الصور، وفي خزينة الحافظة من المعاني الجزئية ، وتصرفت فيها تحت حكومة العقل ، فإنّه تكون النتيجة في الدماغ ، فشاهده النفس إذا كانت مواد إدراكها من البديهيات والقطعيّات ، وأمّا إذا كانت من الذهنيات الصرفة والمظنونات ، فهي من المتخليّات .

والذي يقبل في المحاكم الشرعية والعرفية من الشهادة ، هو هذا النوع من الشهود العلمي ، بان يكون المعلوم مشهوداً عند الشاهد وحاضراً ومنطبعاً في نفسه ، بحيث لا يقبل الترديد والخلاف ، كالنظر إلى الشمس فيشهد بطلوعها، كما قال رسول الله 6: (على مثل هذا فاشهد) وأشار إلى الشمس ، أي لابد أن تكون الشهادة جزميّة وقطعية وحسيّة كمشاهدة الشمس ، فيكون واضحاً كوضوح الشمس ، فتكون الشهادة بالحس لا بالحدس .

6 ـ والشهود للنفس وما يقوم به : كما في قوله : (قالُوا شَهِدْنا عَلى أَنْفُسِنا وَغَرَّتْهُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا وَشَهِدُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كانُوا كافِريüنَ )[10]  (شَهِدَ اللهُ أَنَّهُ لا إِلهَ

إِلّا هُوَ)[11] .

 

فشهود النفس لنفسه ولصفاته الذاتية ، فان النفس في تلک الحالة شاهد باعتبار شهوده ومشهوده ، وباعتبار كونه متعلق الشهود، فيتحد الشاهد والمشهود والشهادة كالعالم والعلم والمعلوم ، هذا العلم إنّما يتحقق من دون إحتياج إلى واسطة وقوّة ، فإنّ النفس في وحدته كل القوى وجامعها ـ كما عند الحكماء ـ ولا قرب أقرب حضوراً من نفس الشيء، فهذا الشهود أقوى وأشدّ من المراتب الثلاث ، وفي هذا القبيل شهود الله تعالى لنفسه ولصفاته الذاتية وللامور القائمة بوجوده ، فانه لنفسه تجرّداً بحتاً، وهو نور غير محدود ليس في ذاته حد ولا نقص ولا ضعف ولا حاجة ولا ظلمة ، فهو علم مطلق ، وقيوم ومدرک مطلق ، وغنى أبديّ صمدي .

7 ـ والشهود لله بالغناء فيه : كما في قوله : (شَهِدَ اللهُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلّا هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُولُوا الْعِلْمِ )[12] .

 

فشهوده النفس لله تعالى ولصفاته الذاتية بالفناء فيه ومحو آثاره الوجودية المتشخصة ، بحيث لا يرى إلّا بسط نوره ، ولا يشاهد إلّا تجلّى جماله ، وهو تعالى غالب على أمره ، قاهر على وجوده ، مسئول عليه ، وهو فانٍ تحت سيطرة نوره ، وفي هذه المرتبة أيضاً شهود تام وحضور كامل ورؤية صادقة ، من دون أن يتوقف إلى حصول صورة وحضورها، بل يشاهد النفس نور الرب عزوجل من دون واسطة ، وهذا أعلى مراتب الشهود، فانه فناء في الشهود، وليس إلّا الشهود بنفسه وذاته .

والمعنى الجامع بين هذه الموارد، هو الحضور مع تحقق العلم بإحدى هذه الوسائل المذكورة فتدبّر.