المحور الأوّل

مفهوم الاُميّة ومراتبه في السلم الزماني

 

1 ـ نحتاج أن نقف أوّلاً عند مفهوم الاُميّة ومراتبه في السلم الزمني ، أعني  : نسبة اختلاف مضمون الاُميّة من زمن لآخر؟ 2 ـ ما الذي تخضع له مراتبية الاُميّة لتختلف من حين لآخر؟

أقول : المفروض في معرفة الكلمات والألفاظ ان نلاحظها من زاويتين :

1 ـ معنى الكلمة لغةً .

2 ـ ومعناها في المصطلح .

والمتكفل لبيان المعنى اللغوي هو كتب معاجم اللغة ، وأمّا الثاني فانه يختلف باختلاف المصطلحات في العلوم والفنون ، فربّ كلمة ولفظ له معان مصطلحة مختلفة في المفاهيم باختلاف العلوم أو الفنون التي اتّخذت تلک الكلمة لها مصطلحاً،

وما نحن فيه (الاُميّة ).

لغةً : من (أمَمَ ) ومع الادغام يكون اُمّاً، والاُم : أصل الشيء يقال : (اُمّ القرى )
أي مكّة المكرّمة ، و(اُمّ الطريق ) أي معظمه ، و(اُمّ النجوم ) أي المجرّة ، و(اُمّ الرأس ) أي الدماغ و(اُمّ عربط ) أي العقرب ، و(اُمّ القرى ) أي النار، و(اُمّ أربع وأربعين ) ديوببة سامّة كثيرة الأرجل .

والاميّة والامومة : صفة الام .

والاُمّي : من لا يعرف الكتابة ولا القراءة .

والاميّة : جهل الكتابة والقراءة ، تقول : (مكافحة الاُميّة )[1]  أي مكافحة

الجهل في المجتمع المحتضر.

«والأم : القصد، أُمّه أي قصده ، وسمّيت الوالدة امّاً، لأن الطفل يقصدها في ثديها للّبن ، والاُمي في كلام العرب : الذي لا يحسن الكتابة ، فقيل نسبة إلى الام ، لأن الكتابة مكتسبة ، فهو على ما ولدته اُمّه من الجهل بالكتابة (كنتم في بطون اُمّهاتكم لا تعلمون شيئاً).

فالاُمّ : أصل واحد يتفرّع منه أربعة أبواب ، وهي : الأصل والمرضع والجماعة والدين ، وهذه الأربعة متقاربة وبعد ذلک اصول ثلاثة ، وهي : القامة والحين والقصد.

قال الخليل : كلّ شيء يضُمّ إليه ما سواه ممّا يليه ، فان العرب تسمى ذلک الشيء اُمّاً، ومن ذلک (اُمّ الرأس ) وهو الدماغ ، و(اُمّ القرى ) وهي مكّة ، وكلّ مدينة هي اُمّ ما حولها من القرى ، و(اُمّ القران ) سورة الحمد، و(اُمّ الكتاب ) ما في اللوح المحفوظ .

قال الخليل : الامة : الدين (انّا وجدنا آبائنا على اُمّة ) أي دين ، وكلّ جيل من الناس اُمّة على حدة ، والامة طويل القامة يقول العرب (انّ فلاناً لطويل الامة ) أي طويق قامته ، وفي قوله تعالى : (وادّكَرَ بَعْدَ اُمّةٍ ) أي بعد حين .

والامام : كلّ من اقتدى به وقُدّم في الامور، والنبي إمام الاُمّة ، والخليفة إمام الرعيّة ، والقرآن إمام المسلمين .

و(الامم ) القصد (ولا آمين البيت الحرام ) جمع ام يومون بيت الله يقصدونه وأهل هذا الباب كلّه من القصد، فمعنى الاُمّة في الدين أي مقصدهم مقصد واحد، واتباع الأنبياء امتهم ، وتطلق على الرجل الجامع لخصال محمودة (إِنَّ إِبْراهيüمَ كانَ أُمَّةً قانِتاً)[2]  وعلى الرجل المنفرد بدين لا يشاركه فيه غيره ، وعلى الدين

والملّة والطريقة التي تؤم ، وعلى الحين والزمان ، وعلى القامة .

والامة : كل جماعة يجمعهم أمرها، اما دين واحد وزمان واحد، أو مكان واحد، سواء أكان ذلک الأمر الجامع تسخيراً أو إختياراً.

والأُمي : من ليس له من الفضل والعلم والتربية والنظر الّا بمقدار ما يؤخذ بالطبيعة من الاُم ، فبرنامج حياته طبيعي ليس في قوله وعمله وفكره تصنع ولا حيلة ولا تكلّف ولا نظر خاص .

واُمّ القرى : مكّة المكرّمة ، والتعبير باُمّ القرى للاشارة إلى أهميّتها وعظمتها وكونها مقصوداً ومتوجّهاً إليها، وإلى سهولة تكليف الانذار في قوله : (لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرى وَمَنْ حَوْلَها)[3]  لأن من حولها يرجعون إليها، وهذا التكليف بعد ما نزل

(وَأَنْذِرْ عَشيüرَتَکَ الاَْقْرَبيüنَ ).

(الَّذيüنَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الاُْمِّيَّ)[4]  (فَآمِنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الاُْمِّيِّ)

ليس له فضل خارجي ولون آخر، وعلوم مكتسبة غير مقام النبوّة والرسالة الالهيّة ، فجميع الحيثيّات الماديّة ملغاة له وعنده (هُوَ الَّذüي بَعَثَ فِي الاُْمِّيِّينَ رَسُولاً مِنْهُمْ )[5]  لتكون لله الحجّة البالغة عليهم ، ولا يبقى لهم مورد للاعتذار

والتعلّل »[6] .

 

هذا اجمال ما أردنا بيانه في معنى (الاُمّي ) لغةً .

وأمّا في المصطلح ، ففي المصطلح العرفي وفي المحاورات العرفيّة بين الناس ولاسيّما في عصرنا الراهن ، فان المقصود من الاُمّي ، من لا يعرف القراءة والكتابة ، ومنه يقال : (مكافحة الاميّة ) أو (محو الاميّة ) ويقصد منها القضاء على الاُميّة بتعليم الناس كلّهم صغاراً وكباراً، رجالاً ونساءً، القراءة والكتابة .

وأمّا في المصطلح القرآني فانه يطلق الاُمّي ويراد واحد من هذه المعاني الأربعة :

قال الشيخ الطبرسي في (مجمع البيان ) في قوله تعالى : (الَّذيüنَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الاُْمِّيَّ)[7] : (الاُمّي : ذكر في معناه أقوال :

 

أحدها: انّه الذي لا يكتب ولا يقرء.

وثانيها: انّه منسوب إلى الاُمّة ، والمعنى انه جبلة الاُمّة قيل استفادة الكتابة ،
وقيل : انّ المراد بالاُمّة العرب ، لأنّها لم تكن تحسن الكتابة .

وثالثها: انّه منسوب إلى الاُمّ ، والمعنى انه على ما ولدته اُمّه قبل تعلم الكتابة .

ورابعها: انّه منسوب إلى اُمّ القرى وهي مكّة ، وهو المروي عن أبي جعفر 7.

هذا من جهة مفهوم (الاُمّي ) و(الاُميّة ) لغة وفي المصطلح ، وهو في السّلم الزماني بنحو واحد، وليس من المقول التشكيكي حتّى يكون له مراتب مختلفة ومتفاوتة في ذاتها، فضلاً عن أن تختلف باعتبار اختلاف الأزمان ، فإذا كان الاميّة بمعنى الجهل وعدم القراءة والكتابة ، فانه لا تمايز في الاعدام ، والعدم أمر بسيط .

نعم إذا كان الجهل باعتبار التقابل مع العلم ، والعلم من المقول التشكيلي ، فبمقدار ما عنده من العلم والأمر الوجودي فانه يكون خالياً من الجهل والأمر العدمي ، فكما عندنا عالم وعلّام وعلّامة أي كثير العلم وغزيره ، فكذلک عندنا جاهل وجهّال وجهّالة أي كثير الجهل ، فاذا تصوّرنا هذا المعنى فيمكن القول بأنّ الاميّة لها مراتب ربّما تختلف باختلاف الأزمان من جهة أهلها، كما يكون ذلک بنحو أمر نسبي ، فمع تطور العلم والتكنلوجيّة ، يلزم أن يكون بعض الأفراد بالنسية إلى البعض الآخر، أو بعض الاُمم بالنسبة إلى بعض الآخر يعدّ اُميّاً ومتخلّفاً، وان كان يعرف القراءة والكتابة ، فليس كلّ من لا يعرف الكتابة هو اُمّي وحسب ، بل إذا عرفها وكان غير متحضر وغير متمدّن يعده العرف اُميّاً أيضاً،
وهذا من باب التسامح في التعبير، ومن الاستعمال المجازي ، ومن ثمّ تخضع مراتبية الاُميّة ـ ان صحّ التعبير ـ من زمان لآخر لتطوّر الاُمّة وحضارتها وثقافتها وتقدّمها وإزدهار من جهة علومها ومعارفها وفنونها، فيقال : هذا مجتمع علمي متحضّر، وهذا مجتمع اُمّي متخلّف .

في عصرنا هذا ربما يعدّ من لم يعرف استعمال الكامبيوتر أميّآ، وربما يكون من الأُمور النسبيّة ، فكل طبقة دانية ، عند العالية تعدّها طبقة أميّة ، وتقابلها طبقة مثقفة أو متحضرة أو متعلّمة وغيرها من الأسماء التي تدل على العلوّ الطبقى كما يحلو لأصحابها، ولا سيّما في مقام الازدراء والاحتقار ـ والعياذ بالله ـ .

 

خلاصة الكلام

يظهر من الروايات بضميمة المعنى اللغوي والمصطلحي ان الاُمّي يطلق ويراد به أحد هذه المعاني التالية :

1 ـ من لم يعرف القراءة والكتابة أصلاً، فهو اُمّي بتمام المعنى أو قل في أعلى مراتب الاُميّة .

2 ـ من لم يقرء ولا يكتب في حياته أبداً، وإن كان عارفاً بهما من دون تعليم بشر، وانما لم يقرء ولم يكتب لحكمة ومصالح ، كما يصدق هذا المعنى في خصوص خاتم الأنبياء محمّد 6، فان الله سبحانه وصفه بأوصاف لم يصف به أحد من أنبيائه . وكأنّما هذا من خصائصه ، كما له خصائص اُخرى كزواجه أكثر من أربع نسوة ، والأوصاف هي في سورة الاعراف الآية 157 (الَّذيüنَ يَتَّبِعُونَ
الرَّسُولَ النَّبِيَّ الاُْمِّيَّ) وهذا من كماله ، بأنّه اُمّي يأتي بمثل هذا الكتاب المهيمن العظيم ، وهذا ما أذهب إليه ، جمعآ بين الأخبار والأقوال .

3 ـ من يقرء ولم يكتب ، كما ورد هذا المعنى بالنسبة إلى النبي  6 في بعض الروايات ان صحّ سندها.

4 ـ من يعرف القراءة والكتابة في الجملة (اجمالاً) الّا انّه متخلّف عن مواكبة التطوّر والتقدّم العصري والحضارة والثقافة المعاصرة ، وهذا ما يُستعمل في عصرنا الحاضر لاسيّما لغة السياسيّين وشعاراتهم البراقة لكسب آراء الناس .