وقفة متأمّل في رحاب الأحلام

 

قيل : (النوم موت خفيف والموت نوم ثقيل )[1]  وكلاهما الموت والنوم

خارجان عن إختيار الانسان فما يسند فيهما الى الانسان يكون اسناداً مجازياً، فان قيل نام فلان أو رأى في نومه كذا وكذا فاسناده اليه من المجاز، كإسناد إنبات البقل الى الربيع في قولنا (أنبت الربيع البقل ) ورب رؤيا وأحلام جميلة نراه ونتمنى أن لا نستيقظ منها، أو نرى شمس الدنيا ومتاعبها وآلامها وشقائها وبؤسها، ورب أحلام مزعجة كالكوابيس ، فنستيقظ منها مرعوبين ، إلّا انه نشكر الله سبحانه أنها كانت من الأحلام فلا واقع لها.

وقسّم أصحاب الفن في تعبير الأحلام وتفسير الرؤى : الأحلام الى مبشرات ومنذرات ، وحقائق تقع في المستقبل ، وأخبار عن الماضي في الضمير اللاشعوري وأضغاث أحلام لا قيمه لها، أو التقسيم إلى رؤى صادقة وغير صادقة ، أو التقسيم باعتبار الزمان من الليل والنهار، أو باعتبار المكان وتأثير المحيط والبيئة والعوامل النسبية والاجتماعية في تبلورات الأحكام وتشكيلاتها المسرتية والمخزنة ، أو التقسيم من جهة الجنس الذكوري والانوثي ، أو من جهة الأعمار والسنين ، أو دخالة أوضاع الكواكب في الأمزجة ، أو غير ذلک .

ومن هذا المنطق ليس من الأمر السهل أن يكون المرء معبّراً للرؤيا بشرائه كتاباً في تعبير الأحلام يقف على أسرارها وعلومها الخاصّة ، فربّ شخصين يران حلماً واحداً، الّا انّ المعبّر يعبّر عنه بنحوين متخالفين ، كما يُحكى عن ابن سيرين إنّه جائه شخص وقال رأيت البارحة اُؤذّن ، فقال : ستذهب إلى مكّة المكرّمة وجاءه آخر وقال رأيت البارحة اُؤذّن فقال : خذوه فهذا سارق ، فتعجب أصحابه من تفسيره المختلف ، فأجاب أمّا الأوّل فاني رأيته من الصالحين فخطر على ذهني قوله تعالى : (وَأَذِّنْ فِي النّاسِ بِالْحَجِّ )[2]  وأمّا الثاني فكان من الفاسقين

فخطر في ذهني قوله تعالى : (ثُمَّ أَذَّنَ مُوَذِّنٌ أَيَّتُهَا الْعيüرُ إِنَّكُمْ لَسارِقُونَ )[3] .

 

وزبدة الكلام انّ ملكات الانسان تؤثّر في الرؤى وفي أحلامه ، فما كان ملكته الصدق لا يرى مناماً كاذباً، ولكن من كان ملكته الكذب ولم يشم من الصدق رائحة كيف يصدق في ما يراه من النوم والأحلام ؟ فانه من الصعب المستصعب .

ثمّ للمعبّر شرائط : كأن يكون عالماً متّقياً نصوحاً أميناً للسرّ، بلا حسد ولا طمع ، وغير ذلک . كما هو مذكور في كتاب (دار السلام ) للمحدّث النوري  1 فراجع ، وما أعتقده أن هذا العلم الشريف من العلوم الإلهاميّة لمن كان من الأتقياء، لاسيّما لو اتّقى الله في القضايا الجنسيّة كتقوى يوسف النبي  7.

ثمّ الرؤيا وإن كانت صادقة حتى لو رآها أعلم المراجع والفقهاء العظام ، إلّا أنها لا حجيّة شرعيّة فيها، فلا تدلّ على الحكم الشرعي من التكاليف الشرعيّة الخمسة ، ثمّ إن إفادت القطع وان القطع حجيته ذاتية ، فانها تنفع لمن رأى الرؤيا ولا يتعدى الى غيره أبداً، فحجيته ليس كحجية الآيات الكريمة والأحاديث الشريفة في استنباط الحكم الشرعي الفرعي ، وحتى كحجية الفتوى ، فلا تغفل واحذر اولئک الذين يجذبون سذّج الناس وعوامهم برؤياهم وأحلامهم ، بأن رأى رسول الله أو أحد الأنبياء أو الأئمّة  : وقال له كيت وكيت فلا حجيّة لمثل هذا الرؤى شرعاً وعقلاً وعقلائياً، كما ثابت في محلّه .

ثمّ النوم ضرورة حيوية حقيقة للانسان بل لجميع الحيوانات حتى النباتات الّا انه أصبحنا نواجه اليوم الحياة التكنلوجية الحديثة بجميع إعبائها ومتاعبها وقلقها وأمراضها العصبيّة ممّا جعل يفكر علماء النفس المجتمع انه من الواجب أن نقوم بنوم ناجح يبطل تأثير جميع السموم التي ينتجها الارهاق اليومي في أجسامنا فان الناس من وجهة عامة لم يعودوا ينامون جيداً، ومن النادر من نجد يتمتع بالنوم الصحيح والمريح والجيد الهادء، بل يستيقظ من نومه وهو أكثر إرهاقاً فمثل هذا كيف يرى المنامات الصادقة والمبشرة ، ومن يلجأ إلى المهدئات والعقاقير المنوّمة التي أصبحت تباع بالأطنان كيف يستقر في نومه ؟ ومن كان مبتلى بالاكتئاب والقلق العصبي والاضطرابات العاطفيّة كيف ينام مرتاح البال ، بل انّ لهذه الحالات النفسيّة المضطربة تأثير مباشر وعميق على نوع النوم وكم وكيف الأحلام والمنام ، فلابدّ من معالجة الموضوع معالجة روحيّة ونفسيّة وطبيّة وإجتماعيّة لإعادة بناء التوازن بين اليقظة والمنام ، يحافظ على سلامة الجسم وصحته وسلامة العقل ومدركاته ، ورعاية الظروف الداخليّة والخارجيّة التي تساعد على النوم المعقول والمريح ، حتّى رعاية نوع الفراش وساعة النوم والغرفة والتهوية وحرارة الجو والضوء والضوضاء وغير ذلک ، كما يقال (النوم فن )[4]

والفنان من يحيد أُصول الفن وقواعده .

وقيل في تعريف النوم الطبيعي : النوم : هو التوقّف عن اليقظة . والنوم هو التوقّف عن النشاط . والنوم كما قال (برجسون ) هو انعدام التوجيه أي التوقّف عن التفكير والتصرف وتقليب الآراء والقلق والعصبية ، فالنوم هو الانتقال من الوعي الى اللّاوعي ، انه الانزلاق إلى عالم مجهول تختفي فيه الأعباء والمسئوليات[5] .

 

النوم : عملية تجديد القوى للجسم ، وهو في نفس الوقت ايقاف للوعي ، فالنوم معناه (فقدان الادراک ) فيكون بلا وعي ولا إرادة ، فنتخلص من التنبه التي نعيشها في اليقظة ، ولكن ربما نبتلى بعالم جديد يسمى بعالم الأحلام .

وخلال النوم : يبطئ نبضنا، وينخفض ضغط الدم ، كما تهبط درجة حرارة الجسم ، وأمّا نشاظ المخ فيخضع أيضاً لتغييرات هامة ، وعلينا أن نجعل نومنا بنحو يعيد لنا التوازن الذي اختل نتيجة الارهاق في عالم اليقظة ، جرّاء المتاعب والمشاكل الفرديّة والاجتماعيّة .

ولا يخفى ان الحديث عن النوم والمنام في هذه الرسالة المتواضعة انما هو عن النوم الطبيعي وليس النوم المفتعل اصطناعاً عن طريق أساليب التنويم المغناطيسي أو المخدّرات وغيرها، ولا عن النوم الباثولوجي (المرضي ) كالغيبوبة أو المشي أثناء النوم أو السبات ، فكل هذا له مورده الخاص وبحثه الخاص .

ثمّ قيل : إنّ النوم نوع من ردّ الفعل اللا إرادي المكتسب ولهذا ليس من الضروري أن يكون النوم في الليل ، بل يمكن أن يفعل المرء ذلک نهاراً[6] .

 

الا انّ الله سبحانه جعل الليل سباتاً، والنهار معاشاً، وكان النوم في الليل عادة وراثيّة عامّة ، وردّ فعل لا ارادي مشروط باختفاء الشمس وحلول الظلام ، بالاضافة إلى ما يتلوهما من توقف الأعمال والأنشطة ، ثمّ الأرق الطويل اذا امتدّ بالانسان أطول من اللازم ، فانه يؤدّي الى الوفاة[7] . ولا يخفى انّ الحياة الطبيعيّة

اليوميّة للانسان منقسمة إلى قسمين : اليقظة والنوم ، ومن فرّط في أحدهما فقد فرّط في حياته ، فلابدّ من التوازن والاعتدال في القسمين على حدّ سواء، فيعطي كلّ واحد شرائطه وآدابه وخصائصه وتداعياته ومعطياته من دون إفراط أو تفريط ، وهذا أمر مهم جداً لمن أراد أن يكون في حياته موفّقاً وناجحاً في أيّ حقل كان ، والله المستعان .