الصور النشاطات السيرة  
الصور النشاطات السيرة  
الصوتيات المرئيات الکتب  
الصوتيات المرئيات الکتب  
الإتصال بنا القائمة العامة الإستفتائات  
الإتصال بنا القائمة العامة الإستفتائات  
       
 
   علوی.نت . العربیة . مکتبة الکتب . رسالات الإسلامیة . المجلد الثالث و العشرون - 23 . العین الساهرة فی الآیات الباهرة. 1 .  

بعد  فهرست  قبل 
(2)
--------------------------------------------------------------------------------
العين الساهرة في الآيات الباهرة(1)
الحمد للّه‏ الذي هدانا لهذا وما كنّا لنهتدي لولا أن هدانا اللّه‏ ، والصلاة والسلام
على أشرف خلقه وسيّد رسله محمّد وآله الطاهرين ، الأئمة الهداة الميامين ، واللعن
الدائم على أعدائهم ومنكري فضائلهم إلى يوم الدين .
قال اللّه‏ سبحانه في محكم كتابه ومبرم خطابه : « إنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللّه‏ِ
الإسْلامُ »(2) ، « وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإسْلامِ دِينا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ »(3) ، « اليَوْمَ أكْمَلْتُ
لَكُمْ دِينَكُمْ وَأتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإسْلامَ دِينا »(4) .
أمّا بعد :
فلا ريب أنّ الدين الإسلامي بالمعنى الخاصّ(5) هو خاتم الشرائع والمناهج
--------------------------------------------------------------------------------
(1) طبعت هذه الرسالة مقدّمة لكتاب ( الآيات الباهرة في العترة الطاهرة ) بقلم الشيخ مهدي
البحراني .
(2) آل عمران : 19 .
(3) آل عمران : 85 .
(4) المائدة : 3 .
(5) الإسلام بالمعنى العامّ هو دين كلّ الأنبياء من آدم إلى الخاتم عليهم‏السلام ، ويدلّ عليه قوله
تعالى : « إنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللّه‏ِ الإسْلامُ » ، وبالمعنى الخاصّ هو الشريعة الإسلامية السمحاء ،
ويدلّ عليها « وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإسْلامِ دِينا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ » .
(3)
--------------------------------------------------------------------------------
السماوية التي أنزلها اللّه‏ سبحانه لسعادة البشر وهدايتهم ، وإقامة القسط والعدل في
المجتمع ، ومن يبتغِ غيره دينا فلن يُقبل منه ، بل يكون كافرا مستحقّا للعذاب الأليم .
فالإسلام العظيم منهاج وشريعة لنيل السعادة الأبدية في كلّ العصور
والأمصار منذر بزوغ شمسه وإلى يوم القيامة ، جاء به النبيّ الأعظم سيّد المرسلين
وخاتم النبيّين محمّد صلى‏الله‏عليه‏و‏آله .
ثمّ كان من أبرز شؤونه وأتمّ مظاهر نبوّته ، هو قيادة الاُمّة في عصره
الشريف ، وسوقهم نحو الكمال الدنيوي والاُخروي ، إلاّ أ نّه بعد رحلته إلى جوار
ربّه ، وقع الخلاف بين أصحابه ، وانقلب الناس على أعقابهم ، فتنازعوا في خلافته ،
واختلفوا في إمام زمانهم ، ممّا أدّى الأمر ، وحبّهم للدنيا والرئاسة ، ظهور الفرق
والمقالات في خلافة النبيّ ، ثمّ في صياغة القيادة الدينية والدنيوية بعد الرسول
المختار صلى‏الله‏عليه‏و‏آله .
فذهبت الشيعة إلى أنّ الخلافة الحقّة والإمامة الصادقة وقيادة الاُمّة الواقعيّة
إنّما هو بالنصّ الإلهي ، ومن ثمّ قالوا بعصمة الإمام وعلمه اللدنّي ، فإنّ اللّه‏ أعرف
بمن جعل فيه العصمة الذاتية الكلّية ، وبقاعدة اللطف التي نثبت بها النبوّة وشرائطها
نثبت عن اللّه‏ أن ينصّ على خليفة رسوله وإمام الزمان ، فإنّه كتب على نفسه
الرحمة .
وذهبت المذاهب الاُخرى إلى الشورى وانتخاب أهل الحلّ والعقد ، ولكلّ
من المدرستين والاتّجاهين دلائله وبراهينه .
ولا شكّ أنّ الحقّ في أحد الاتّجاهين ، فإنّ الدين واحد ومن الواحد الأحد ،
وإلاّ يلزم اجتماع النقيضين أو ارتفاعهما وهو محال عقلاً ، كما من يهدي إلى الحقّ
أحقّ أن يتّبع ممّن لا يهدي إلاّ أن يهدى ، كما عليه الأدلّة السمعية النقليّة .
(4) ··· العين الساهرة في الآيات الباهرة
--------------------------------------------------------------------------------
ومن الواضح أيضا أ نّه من يتّبع سيرة النبيّ ويطالع حياته الكريمة يرى أنّ
الظروف السياسية السائدة في عصره كانت تحتّم على النبيّ صلى‏الله‏عليه‏و‏آله أن يعيّن قائدا من
بعده ، لتهديد المجتمع الإسلامي ـ آنذاك ـ بالخطر الثلاثي الحادق بالاُمّة : الروم
والامبراطورية الفارسية من الخارج ، والمنافقين من الداخل . فكانت مصلحة الاُمّة
تستوجب توحيد الصفوف وأن لا يتركهم نبيّهم أيادي سبأ في مواجهة الخطر
الداهم ، وذلك بنصب أمير محنّك من بعده ، يقود الاُمّة ويجمع شملهم ، ويدفع
الأخطار عنهم .
وقد فعل ذلك رسول اللّه‏ في مواطن عديدة بنصب أمير المؤمنين أسد اللّه‏
الغالب الإمام عليّ بن أبي طالب عليه‏السلام في مثل يوم الغدير بعد حجّة الوداع ، بل
وعيّن الخلفاء من بعده وأ نّهم اثنا عشر خليفة كلّهم من قريش ـ كما عند الفريقين
السنّة والشيعة ـ وقد صرّح بأسمائهم وعيّن شخصيّتهم لتتمّ الحجّة البالغة على الاُمّة
الإسلامية جيلاً بعد جيل إلى يوم القيامة ، وقد أمر بالتمسّك بهم وبكتاب اللّه‏ لمن
أراد الهدى والنجاة ، كما في حديث الثقلين المتّفق عليه عند الفريقين .
فاختار رسول اللّه‏ محمّد صلى‏الله‏عليه‏و‏آله بأمر من ربّه شخصا إلهيّا نفسه نفس النبيّ ،
تتمثّل فيه المرجعيّة الدينية والدنيوية بكلّ جوانبها وعوالمها ومعالمها ، يصون به
دعوته الإسلامية من الضياع والانحراف ، ويضمن ديموميّتها واستمراريّتها ، لتكون
الحاكمة والمتغلّبة على الظروف القاسية والعوائق التي تحدث في مسيرها من قبل
أعدائها وخصمائها ، وتملأ الفراغات والثغرات كالإبهامات الطارئة على الآيات
القرآنية والحوادث المستجدّة على الرسالة الإسلاميّة وصيانة الدين من التحريف
والدسّ ، وتحافظ على القلاع العقائدية والمبادئ السامية .
ولا يقوم بمسؤوليات النبيّ ووظائفه الملقاة على عاتقه من ربّه ، إلاّ من كان
تقديم ··· (5)
--------------------------------------------------------------------------------
نفسه وفي رتبته ، يحمل ما يحمل النبيّ من المقامات الرفيعة والمنازل العالية ، إلاّ
النبوّة وتلقّي الوحي . ولا تحصل هذه الشرائط والمؤهّلات المعنوية لشخص عادي
أو قضى عمره بالشرك والمعصية ، كما لا تحصل بالتربية البشريّة المتعارضة ، بل لا
بدّ من إعداد ربّاني وغيبي خاصّ ، كما لا بدّ من طريق خاصّ لمعرفة هذا الشخص
اللائق بعد رسول اللّه‏ صلى‏الله‏عليه‏و‏آله ، وهذا يدلّ بكلّ وضوح على لزوم التنصيص الإلهي على
الخليفة والوصي والإمام من بعد الرسول صلى‏الله‏عليه‏و‏آله والذي يتمتّع بتربية إلهيّة وإعداد غيبي
وعلم لدنّي « مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ »(1) ، وعصمة ذاتية ، ولولاه لما عرفنا الحقّ من
الباطل والخطأ من الصواب . والصحيح من السقيم والمعوج .
يقول ابن سينا : ( والاستخلاف بالنصّ أصوب ، فإنّ ذلك لا يؤدّي إلى
التشعّب والتشاغب والاختلاف )(2) .
كما حدث ذلك في سقيفتهم وقالوا : منّا أمير ومنكم أمير . وكلّ يجرّ النار إلى
قرصه .
فمصالح الإسلام والمسلمين كانت تكمن في تعيين الإمام والخليفة من بعد
رسول اللّه‏ صلى‏الله‏عليه‏و‏آله لا تفويض الأمر إلى الشورى وترك المسألة للظروف والصدف
لترسيها على أيّ شاطئ تختارها .
فما حدث بعد النبيّ لا يتلاءم ولا يتوافق مع الموازين العقلية ولا الشرعيّة ،
وإلاّ كيف تولّي الاُمّة رجلاً يقول : ( ولّيتكم ولست بخيركم فإن استقمت فأعينوني ،
وإن زغت فقوّموني ، وإنّ لي شيطانا يعتريني ) ، فمثل هذا ـ وربّ المقدّسات ـ لا
--------------------------------------------------------------------------------
(1) هود : 1 .
(2) الشفاء 2 : 558 ـ 564 .
(6) ··· العين الساهرة في الآيات الباهرة
--------------------------------------------------------------------------------
يصلح أن يكون إماما ، بل بمقولته هذه يكون مأموما ، وتصبح الرعيّة إماما ، فما لكم
كيف تحكمون ؟
ثمّ الرسول الأعظم محمّد صلى‏الله‏عليه‏و‏آله ـ كما تشهد النصوص التاريخية ـ خيّب آمال
الطامحين في تولّي الخلافة من بعده ، وقد قالها تكرارا ومرارا أنّ أمر الخلافة بيد
اللّه‏ ، يعني لا بيدي ولا بيد الناس ، كما قال صلى‏الله‏عليه‏و‏آله في جواب كبير بني عامر في موسم
الحجّ : « الأمر إلى اللّه‏ أضعه حيث يشاء »(1) ، « اللّه‏ُ أعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ »(2) .
ومن يرجع إلى صدر الإسلام والقرن الأوّل من تاريخه يرى أنّ الرأي السائد
والمرتكز عند المسلمين كان هو الاستخلاف بالعهد ، كما فعل أبو بكر في خلافة
عمر ، وعمر في خلافة الستّة ، وممّا يثير الدهشة أ نّهما يستخلفان من بعدهما ، ولا
يستخلف النبيّ الأعظم صلى‏الله‏عليه‏و‏آله من بعده ؟ ! بل ترك الاُمّة بلا قائد ولا راعٍ ، ليجرّ كلّ
واحد النار إلى قرصه ، حتّى تسلّط البعض على الحكم باللغط والشغب والشتم
والضرب والقتل والإرهاب والرعب وغير ذلك من القضايا التي تجعل الخلافة بعيدة
كلّ البعد عن منطق الشورى والانتخاب السليم ؟ !
كما أنّ مقتضى القرآن الكريم والسنّة الشريفة بل صريحهما في صيغة الخلافة
والقيادة بعد رسول اللّه‏ صلى‏الله‏عليه‏و‏آله هو التنصيص والنصب الإلهي ـ كما تشاهد هذا المعنى
بوضوح في الكتاب الذي بين يديك ـ لا التفويض إلى الاُمّة وتركها سدى ، ولا ترك
الأمر إلى الصدفة والظروف الحاكمة والحوادث غير المتوقّعة .
فما أكثر النصوص في سنّة النبيّ صلى‏الله‏عليه‏و‏آله تنصّ على الخليفة من بعده ، فإنّه منذ
--------------------------------------------------------------------------------
(1) السيرة النبويّة ؛ لابن هشام 2 : 424 .
(2) الأنعام : 124 .
تقديم ··· (7)
--------------------------------------------------------------------------------
اليوم الأوّل ( يوم الدار ) وإلى اليوم الآخر ( يوم الدار ) أيضا ، كان يدعو إلى الخلافة
من بعده ، ففي حديث الدار وإنذار العشيرة والأقربين أشار إلى خلافة أمير المؤمنين
عليّ عليه‏السلام ، وطيلة حياته الرسالية صرّح بذلك في أحاديثه الشريفة واحدةً تلو
الاُخرى كحديث المنزلة وحديث الثقلين في مواطن عديدة والطائر المشوي
والمئات من الأحاديث التي تنصّ على ذلك ، ومن أعظمها حديث الغدير وحديث
الثقلين الثابت عند الفريقين ، لا سيّما حديث الدار عند مرض رسول اللّه‏ صلى‏الله‏عليه‏و‏آله .
فبدأ النبيّ صلى‏الله‏عليه‏و‏آله رسالته الخالدة بعليّ عليه‏السلام كما ختمها بعليّ عليه‏السلام ليعلن لاُمّته
إلى يوم القيامة أنّ الخليفة من بعده بلا فصل هو أمير المؤمنين وسيّد الوصيّين الإمام
عليّ بن أبي طالب عليه‏السلام ، ثمّ لأولاده الأئمة المعصومين من بعده ، آخرهم قائمهم ،
وأ نّهم في الإسلام بمنزلة القطب من الرحى ، فهم محور الدين ، والصراط المستقيم ،
والعروة الوثقى ، وكلمة اللّه‏ العليا ، وباب اللّه‏ المؤتى منه الناس ، وسفينة النجاة ، فمن
أتاهم نجا وسعد ، ومن تخلّف عنهم غرق وشقي .
فالمفزع بعد رسول اللّه‏ صلى‏الله‏عليه‏و‏آله كتاب اللّه‏ الكريم والعترة الطاهرة ، ولا ينقضي هذا
الأمر حتّى يمضي فيهم اثنى عشر خليفة كلّهم من قريش(1) .
« اللهمّ صلّ على محمّد وآل محمّد شجرة النبوّة وموضع الرسالة ومختلف
الملائكة ومعدن العلم وأهل بيت الوحي ، اللهمّ صلّ على محمّد وآل محمّد الفُلك
الجارية في اللجج الغامرة يأمن من ركبها ويغرق من تركها ، المتقدّم لهم مارق
والمتأخّر عنهم زاهق ، واللازم لهم لاحق . اللهمّ صلّ على محمّد وآل محمّد الكهفِ
--------------------------------------------------------------------------------
(1) صحيح البخاري 9 : 101 ، وصحيح مسلم 6 : 3 ، والمستدرك على الصحيحين 3 : 617 ،
وغيره .
(8) ··· العين الساهرة في الآيات الباهرة
--------------------------------------------------------------------------------
الحصين وغياث المضطرّ المستكين وملجأ الهاربين وعصمة المعتصمين . اللهمّ صلّ
على محمّد وآل محمّد صلاةً كثيرةً تكون لهم رضىً ولحقّ محمّد وآل محمّد أداءً
وقضاءً بحولٍ منك وقوّة يا ربّ العالمين . اللهمّ صلّ على محمّد وآل محمّد الطيّبين
الأبرار الأخيار الذين أوجبت لهم حقوقهم وفرضت طاعتهم وولايتهم »(1) .
فالتمسّك بالقرآن المجيد والعترة الهادية يعصم المسلم من الضلالة والشقاء ،
ولا يُغني أحدهما عن الآخر ، بل كلّ يدعو إلى الآخر ، وإنّهما لن يفترقا منذ الأزل
وإلى يوم القيامة في كلّ شيء ، إلاّ أنّ أحدهما صامت تدويني والآخر ناطق عيني .
ثمّ الرسول الأعظم محمّد صلى‏الله‏عليه‏و‏آله قام بما عليه من المسؤولية العظمى في تعيين
الخليفة من بعده ، ونصبه بأمر من ربّه في مثل ( غدير خم ) وبلّغ ما أنزل عليه . وبيّن
ما أنزل اللّه‏ عليه من آيات نزلت في ولاية أمير المؤمنين علي وإمامته ، وما نزل في
عترته كآية الولاية : « إنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللّه‏ُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ
وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ »(2) فإنّها نزلت في أمير المؤمنين عليّ عليه‏السلام ، وآية
الطهارة : « إنَّمَا يُرِيدُ اللّه‏ُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أهْلَ البَـيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرا »(3)
نزلت في عليّ وأهل بيته عليهم‏السلام ، وآية المودّة والمباهلة والنور وغيرها الكثير حتّى
بلغت ثلث القرآن الكريم .
فالذكر الحكيم يواكب السنّة الشريفة في تعيين مصير الاُمّة الإسلامية في
مجال الخلافة والقيادة الحقّة بعد رسول اللّه‏ صلى‏الله‏عليه‏و‏آله .
--------------------------------------------------------------------------------
(1) من أدعية شهر شعبان في مفاتيح الجنان للشيخ عباس القمّي قدس‏سره .
(2) المائدة : 55 .
(3) الأحزاب : 33 .
تقديم ··· (9)
--------------------------------------------------------------------------------
وإنّما أعرض الجمهور عن هذه النصوص الواضحة والبراهين القاطعة والأدلّة
الساطعة ، واجتمع ثلّة منهم في سقيفتهم والرسول الأعظم لمّا يدفن ، حرصا على
دنياهم ، وطمعا في زخارفها ورياستها ، وحبّا للجاه والمقام والمُلك ، فإنّ الملك
عقيم . حتّى قال قائلهم : تلاقفوها بني اُميّة كالكرة فلا خبرٌ جاء ولا وحيٌ نزل .
وقال يزيدهم الملعون :
لعبت هاشم بالملك فلا خبرٌ جاء ولا وحيٌ نزل فأصابت الاُمّة الإسلامية تلك الرزيّة العظمى والانحطاط والانشقاق والنفاق
والافتراق إلى مذاهب يتلوها الويلات والحسرات ...
والحريّ بالقول أنّ طرح مثل هذه المباحث الاُصولية والعقائدية لا يتنافى مع
الوحدة الإسلامية التي تعني وحدة الصفّ والجبهة أمام العدوّ المشترك . فإنّ الوحدة
لا يقصد منها أن يتخلّى كلّ واحد عن معتقداته على حساب الآخر ، بل المقصود
منها فتح المجال لعرض المشتركات بين المذاهب أوّلاً ، ثمّ التحرّي عن الحقّ
ومعرفة الحقائق ومعرفة إمام الزمان ، فإنّه ممّا اتّفق عليه الفريقان : السنّة والشيعة أنّ
الرسول الأعظم صلى‏الله‏عليه‏و‏آله قال : من مات ولم يعرف إمام زمانه مات ميتة جاهلية وكفر
ونفاق وشرك وضلال .
فمن هو إمام زمانك أ يّها المسلم ؟ وقفوهم إنّهم مسؤولون ...
وهذا يستدعي أن نرجع إلى صدر الإسلام ونرى من الذي عيّنه الرسول صلى‏الله‏عليه‏و‏آله ونصبه من بعده ، وهكذا إلى يوم القيامة . فلا يقال إنّ البحث عن الإمامة إنّما هو من
الترف الفكري ، أو من إيقاظ الفتنة ـ والفتنة نائمة لعن اللّه‏ من أيقظها ـ بل موضوع
الإمامة من صميم الإسلام وجوهره ، ولولاها لما صحّت الأعمال والطاعات ، ولا
قُبلت يوم المحشر .
(10) ··· العين الساهرة في الآيات الباهرة
--------------------------------------------------------------------------------
الإمامة أساس الإسلام ، وتالي تلو النبوّة ، وامتداد لخطّها الإلهي ، فلولاها
لضاع الدين ، ولمحيت آثاره ومعالمه .
الإمامة الحقّة في كلّ الأزمنة والأمكنة هي التي تحقّق سعادة الفرد وسعادة
المجتمع على الصعيدين : الدنيوي والاُخروي ، ومن تخلّف عنها أو قصّر فيها ، فقد
انحرف وهوى وغرق ، وإنّه يتيه في وادي الضلال والشقاء ، يتبعه النار والعذاب
الأليم .
ولا يخفى أنّ الاختلاف بعد النبيّ في تعيين الخليفة كان اختلافا عنه ، ولا
فيه ، كما اختلف اليهود في نبيّهم موسى .
وبهذا أجاب أمير المؤمنين عليّ عليه‏السلام ذلك اليهودي حينما قال له : ( ما دفنتم
نبيّكم حتّى اختلفتم فيه ) فقال عليه‏السلام : « إنّما اختلفنا عنه ـ أي ما ورد عنه في تعيين
خليفته ـ لا فيه ، ولكنّكم ما جفّت أرجلكم من البحر حتّى قلتم لنبيّكم اجعل لنا إلها
كما لهم آلهة ، فقال : إنّكم قوم تجهلون »(1) .
فالاختلاف إنّما كان عن أمر وصلنا بعد النبيّ من جهة نصّه على خليفته ، أو
أ نّه فوّض ذلك للناس لتختاره وتنتخبه ؟
فذهب جمهور العامّة إلى الثاني ، وأمّا أتباع مذهب أهل البيت عليهم‏السلام فقالوا
بالأوّل ، وهذا هو جوهر الخلاف بين المذاهب .
فالإمامية تعتقد بالإمامة بأ نّها من اُصول الدين ، فإنّ نصب الإمام من أفعال
اللّه‏ ، وموضوع علم الكلام والاُصول هو المبدأ والمعاد وأفعال اللّه‏ ، إلاّ أ نّه عند
المذاهب الاُخرى من فروعه .
--------------------------------------------------------------------------------
(1) نهج البلاغة : الحكمة 317 .
تقديم ··· (11)
--------------------------------------------------------------------------------
والسرّ في ذلك أنّ الشيعة الاثنى عشرية تنظر إلى الإمامة لا بمعناها اللغوي ،
وإنّها قيادة سياسية ومرجعيّة دنيوية تتعلّق بأفعال المكلّفين ولا غير ، بل ترى أنّ لها
أدوارا ومفاهيم اُخرى أوسع دائرةً ، كالمرجعيّة الدينية والعلمية ، والإمامة التكوينية ،
فإنّه حجّة اللّه‏ على الخلق ، ولولاه لساخت الأرض وكلّ الكائنات بأهلها .
فالإمام بمعناه اللغوي لا ينطوي على مفهوم مقدّس ، بل بمعنى الشخص
المتقدّم على غيره وعلى جماعة والمقتدى به والمؤتمّ به ، ويكون رئيسا كما يقال
إمام المسلمين ، سواء كان عادلاً ينهج صراطا سويّا أم ضالاً ومضلاً يهوى الظلم
والباطل . وقد أطلق القرآن الكريم الإمام على المعنيين في قوله تعالى :
« وَجَعَلْنَاهُمْ أئِمَّةً يَهْدُونَ بِأمْرِنَا »(1) ، وفي قوله تعالى : « أئِمَّةً يَدْعُونَ إلَى
النَّارِ »(2) .
فأبناء العامة يتّفقون مع الشيعة في مفهوم أصل الإمام وأ نّه يعني رئاسة
المجتمع ، إلاّ أ نّهم يختلفون معهم في كيفيّتها وفي نطاقها وشكلها ، وشخص الإمام
وشرائطه ، ومن هو الإمام والخليفة بلا فصل لرسول اللّه‏ صلى‏الله‏عليه‏و‏آله .
فالإمامة عند الشيعة تعني امتداد خطّ النبوّة وحفظ الرسالة المحمّدية
وتبليغها وإشغال مناصب النبيّ صلى‏الله‏عليه‏و‏آله من القضاء والرئاسة العامّة مطلقا ، فإنّ الإمام لا
يختلف عن النبيّ في مقاماته ومسؤولياته إلاّ النبوّة وتلقّي الوحي ، فإنّه لا يوحى إليه
ولم يكن نبيّا ، إلاّ أ نّه يأخذ العلم من اللّه‏ إيحاءً بنكت في القلوب أو قرع في
الأسماع أو بإلهام خاصّ ، فيكون علمه من لدن حكيم .
--------------------------------------------------------------------------------
(1) الأنبياء : 73 .
(2) القصص : 41 .
(12) ··· العين الساهرة في الآيات الباهرة
--------------------------------------------------------------------------------
فالبحث عن الإمامة في كلّ زمان إنّما يكون بحثا موضوعيا ذات أهمية بالغة
في حياة الإنسان لإقامة الحجّة بينه وبين ربّه ، وترسيم البيّنات واليقين بقبول
الأعمال وصحّتها . فليس الكلام حول الإمامة وإمام الزمان مجرّد موضوع تاريخي
حتّى يلزمه إثارة الخلافات التاريخية والكلامية والخوض في تاريخ المذاهب
والفرق ، ثمّ ينتهي البحث إلى تكريس الفضائل والمناقب من جهة والمطاعن
والمثالب من جهة اُخرى ، أو يكون من التراث القديم أو الترف الفكري . بل الإمامة
عقيدة راسخة وامداد لخطّ النبوّة الصادقة ، ومعرفة اللّه‏ معرفة كاملة .
ونقول مرّة : إنّما نرجع إلى عصر النبيّ صلى‏الله‏عليه‏و‏آله في الإمامة ونصبها من قبله بتعيين
من ربّه ، لتصحيح المسير وشرعيّة الأعمال ، وتماميّة الحجّة لكلّ واحد من
المسلمين في كلّ زمان ومكان ، لا سيّما في عصرنا الراهن ، إذ كلّكم راعٍ وكلّكم
مسؤول عن رعيّته .
ثمّ علينا أن نأخذ البذور الاُولى في بحثنا حول الإمامة من السلف الصالح ،
ونعيد ما هو النافع والمفيد من ميراث القدماء بشيء من التطوير والتجديد . فنحافظ
على الأصالة أوّلاً ، إلاّ أ نّها في إطار التجدّد والتحديث . فلا يستغني الباحث عن
كتب القدماء في العقائد ، كالشافي لسيّدنا علم الهدى وأوئل المقالات لشيخنا المفيد
أو مصنّفاته الاُخرى كتصحيح الاعتقاد والنكت الاعتقادية والإفصاح والإرشاد
وغيرها ، وأمثالها المئات لأصحابنا الأقدمين من المحدّثين والفقهاء ، وغيرها
الاُلوف من الكتب والرسائل والمقالات والكلمات في العقائد الصحيحة ، ومفاهيمها
العامّة والخاصّة .
أجل ؛ الإمامة لغةً : بمعنى المتابعة بين الإمام ومأمومه ، فالإمام يعني المتبوع
في أقواله وأفعاله وأوامره .
تقديم ··· (13)
--------------------------------------------------------------------------------
واصطلاحا : رئاسة عامّة في اُمور الدين والدنيا . بنصّ من اللّه‏ سبحانه وتعيين
من رسوله صلى‏الله‏عليه‏و‏آله عند مدرسة أهل البيت عليهم‏السلام ، وبالشورى وتعيين أهل الحلّ والعقد
عند العامّة والجمهور .
ثمّ الإمامة عند الشيعة أتباع مذهب أهل البيت عليهم‏السلام تعني المرجعيّة المطلقة
بأبعادها الثلاثة الكلّية :
1 ـ المرجعية الدنيويّة : بمعنى الرئاسة والقيادة العامّة في القضايا الاجتماعية
وفي اُمور الدنيا من إدارة البلاد وحكومتها .
2 ـ المرجعية الدينية : بمعنى الرئاسة العامّة في اُمور الدين وتبليغه ودفع
الشبهات وحفظ الرسالة من الضياع والانحراف والعدم ، ولازمها الولاية التشريعية
والعلمية .
وممّا يدل عليه ما ورد في الخبر الشريف عن الإمام الصادق عليه‏السلام : إنّ اللّه‏ لم
يدع الأرض بغير عالم ، ولولا ذلك لم يعرف الحقّ من الباطل(1) .
وقال أمير المؤمنين عليّ عليه‏السلام : اللهمّ إنّك تعلم أ نّه لم يكن الذي كان منّا
منافسةً في سلطان ، ولا التماس شيء من فضول الحطام ، ولكن لنردّ المعالم من
دينك ، ونظهر الإصلاح في بلادك ، فيأمن المظلومون من عبادك وتقام المعطّلة من
حدودك(2) .
وعن الإمام الرضا عليه‏السلام : إنّ العبد إذا اختاره اللّه‏ عزّ وجلّ لاُمور عباده ، شرح
صدره لذلك ، وأودع قلبه ينابيع الحكمة ، وألهمه العلم إلهاما فلم يعي بعده بجواب ،
--------------------------------------------------------------------------------
(1) ميزان الحكمة 1 : 165 .
(2) شرح نهج البلاغة ابن أبي الحديد 8 : 261 .
(14) ··· العين الساهرة في الآيات الباهرة
--------------------------------------------------------------------------------
ولا يحير فيه عن الصواب(1) .
3 ـ المرجعية التكوينية : بمعنى الإمامة العامّة لكلّ الخلق والمحوريّة في
عالم التكوين ، والولاية العظمى في عالم الإمكان ، ولازمها الولاية التكوينية ،
وجاءت أوصاف هذه المرجعيّات في زيارة الجامعة الكبرى(2) لأئمة أهل البيت
عليهم‏السلام .
ويدلّ عليه ما ورد عن الإمام الصادق عليه‏السلام : إنّ اللّه‏ خلقنا فأحسن خلقنا ،
وصوّرنا وجعلنا عينه في عباده ، ولسانه الناطق في خلقه ، ويده المبسوطة على
عباده بالرأفة والرحمة ، ووجهه الذي يؤتى منه ، وبابه الذي يدلّ عليه ، وخزّانه في
سمائه وأرضه ، بنا أثمرت الأشجار وأينعت الأثمار ، وجرت الأنهار ، وبنا ينزل
غيث السماء ، وينبت عشب الأرض ، وبعبادتنا عبد اللّه‏ ، ولولا نحن ما عبد اللّه‏(3) .
وعنه عليه‏السلام : « نحن السبب بينكم وبين اللّه‏ عزّ وجلّ »(4) .
ويمكن أن يتخلّى إمام الحقّ عن مرجعيّته الاُولى ـ القيادة الاجتماعية ـ
لمصالح عامّة أو خاصّة ، كالحفاظ على الإسلام ، كما فعل أمير المؤمنين عليّ عليه‏السلام
دون المرجعيّتين الأخيرتين ، كما أ نّه يشترط فيهما العصمة الذاتية الكلّية ، دون
الحاكم والمرجع السياسي ، إنّما يكون معصوما إذا كان إماما ، فبينهما عموم مطلق ،
فكلّ معصوم حاكم ولا عكس ، فالحاكم إن كان إماما فيشترط فيه العصمة ، وإلاّ
فلا .
--------------------------------------------------------------------------------
(1) الكافي 1 : 202 .
(2) راجع آخر كتاب مفاتيح الجنان لخاتم المحدّثين الشيخ عباس القمّي قدس‏سره .
(3) الكافي 1 : 144 .
(4) البحار 23 : 101 .
تقديم ··· (15)
--------------------------------------------------------------------------------
فالإمامة عندنا إنّما هي قيادة سياسية واجتماعية للدولة والاُمّة ، أي أ نّها
مرجعية دنيوية ، كما أ نّها مرجعية دينية لحفظ الدين واُصوله ، وبيان مقاصده
وفروعه ، ودفع الشبهات والشكوك الواردة من قبل أعدائه وخصومه . كما أ نّها
مرجعية تكوينية بمعنى قطب عالم الإمكان ، مرآة جمال اللّه‏ وجلاله وكماله ،
ومظهرا لأسمائه وصفاته .
والأئمة من بعد الرسول الأعظم محمّد صلى‏الله‏عليه‏و‏آله اثنا عشر إماما كلّهم من قريش :
أوّلهم أمير المؤمنين علي عليه‏السلام ، ثمّ السبطان الحسن المجتبى والحسين الشهيد
بكربلاء ، ثمّ زين العابدين عليّ ، ثمّ الباقر محمّد ، ثمّ الصادق جعفر ، ثمّ الكاظم
موسى ، ثمّ الرضا علي ، ثمّ الهادي محمّد ، ثمّ الحسن العسكري ، ثمّ الحجّة القائم
المهدي المنتظر عليهم‏السلام .
وهذا ما دلّت عليه النصوص القاطعة من القرآن الكريم والسنّة الشريفة ،
والعقل السليم .
ثمّ قيمة كلّ امرئٍ ما يحسنه من المبادئ السامية والعقائد الصحيحة والأعمال
الصالحة والصفات الحميدة ، فلا بدّ من المعرفة ، فإنّ أفضلكم يوم القيامة أفضلكم
معرفة .
قال الإمام الصادق عليه‏السلام : إنّ المؤمنين بعضهم أفضل من بعض ، وبعضهم أكثر
صلاةً من بعض ، وبعضهم أنفذ بصرا من بعض ، وهي درجات .
« يَرْفَعِ اللّه‏ُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ اُوتُوا العِلْمَ دَرَجَاتٍ »(1) .
قال الإمام الباقر عليه‏السلام : لا يقبل عمل إلاّ بمعرفة ، ولا معرفة إلاّ بعمل ، ومن
--------------------------------------------------------------------------------
(1) المجادلة : 11 .
(16) ··· العين الساهرة في الآيات الباهرة
--------------------------------------------------------------------------------
عرف دلّته معرفته على العمل ، ومن لم يعرف فلا عمل له .
وإنّما يكمل ويتمّ معرفة اللّه‏ ورسوله بمعرفة الإمام ، كما أنّ الطاعات
والقربات لا تقبل إلاّ بمعرفته وولايته .
عن أبي حمزة الثمالي قال : قال لي أبو جعفر عليه‏السلام : إنّما يعبد اللّه‏ من يعرف
اللّه‏ ، فأمّا من لا يعرف اللّه‏ فإنّما يعبده هكذا ضلالاً ، قلت : جعلت فداك ، فما معرفة
اللّه‏ ؟ قال : تصديق اللّه‏ عزّ وجلّ وتصديق رسوله وموالاة عليّ والائتمام به وبأئمة
الهدى ، والبراءة إلى اللّه‏ عزّ وجلّ من عدوّهم ، هكذا يعرف اللّه‏ عزّ وجلّ(1) .
قال الإمام الصادق عليه‏السلام في حديث : واللّه‏ لو أنّ إبليس سجد للّه‏ عزّ وجلّ
ـ بعد المعصية والتكبّر ـ عمر الدنيا ما نفعه ذلك ، ولا قبله اللّه‏ عزّ ذكره ما لم يسجد
لآدم ـ كما أمره اللّه‏ عزّ وجلّ أن يسجد له ـ وكذلك هذه الاُمّة العاصية المفتونة ـ بعد
نبيّها صلى‏الله‏عليه‏و‏آله ـ بعد تركهم الإمام الذي نصبه نبيّهم صلى‏الله‏عليه‏و‏آله لهم ، فلن يقبل اللّه‏ تبارك وتعالى
لهم عملاً ، ولن يرفع لهم حسنة ، حتّى يأتوا اللّه‏ عزّ وجلّ من حيث أمرهم ، ويتولّوا
الإمام الذي اُمروا بولايته ، ويدخلوا من الباب الذي فتحه اللّه‏ عزّ وجلّ ورسوله
لهم ...(2) .
قال رسول اللّه‏ صلى‏الله‏عليه‏و‏آله : فوالذي نفسي بيده لو أنّ رجلاً صفّ بين الركن والمقام
صائما وراكعا وساجدا ، ثمّ لقي اللّه‏ عزّ وجلّ غير محبٍّ لأهل بيتي لم ينفعه ذلك(3) .
قال الإمام السجّاد عليه‏السلام : إنّ أفضل البقاع ما بين الركن والمقام ، ولو أنّ رجلاً
--------------------------------------------------------------------------------
(1) الكافي 1 : 18 .
(2) الكافي 8 : 271 .
(3) أمالي الطوسي : 633 .
تقديم ··· (17)
--------------------------------------------------------------------------------
عمّر ما عمّر نوح عليه‏السلام في قومه ـ ألف سنة إلاّ خمسين عاما ـ يصوم النهار ويقوم
الليل ـ في ذلك الموضع ـ ثمّ لقي اللّه‏ عزّ وجلّ بغير ولايتنا لم ينفعه ذلك شيئا(1) .
وعن الإمام الباقر عليه‏السلام : واللّه‏ لو أنّ عبدا صفّ قدميه في ذلك المكان ، قام
الليل حتّى يجيئه النهار وصام النهار حتّى يجيئه الليل ، ولم يعرف حقّنا وحرمتنا
ـ أهل البيت ـ لم يقبل اللّه‏ منه شيئا أبدا .
وقال الإمام الصادق عليه‏السلام : لو أنّ عبدا عبد اللّه‏ مئة عام بين الركن والمقام ،
يصوم النهار ويقوم الليل حتّى يسقط حاجباه على عينيه وتلتقي تراقيه هرما ،
جاهلاً لحقّنا ، لم يكن له ثواب .
وعنه عليه‏السلام : واللّه‏ لو أنّ رجلاً صام النهار وقام الليل ، ثمّ لقي اللّه‏ بغير ولايتنا
لقيه وهو ساخط عليه(2) .
هذا غيض من فيض ...
ثمّ لا يمكن للناس اختيار الإمام والخليفة لرسول اللّه‏ من بعده ، فإنّ هذا من
فعل اللّه‏ ، لا من فعل الناس .
عن الإمام الرضا عليه‏السلام في حديث طويل : فمن ذا الذي يبلغ معرفة الإمام أو
يمكنه اختياره ؟ هيهات هيهات ، ضلّت العقول ، وتاهت الحلوم ، وحارت الألباب
وتقاصرت الحكماء ، وحصرت الخطباء وجهلت الألبّاء ، وكلّت الشعراء ، وعجزت
الاُدباء ، وعييت البلغاء عن وصف شأن من شأنه ، أو فضيلة من فضائله ، وأقرّت
بالعجز والتقصير ، وكيف يوصف بكلّه ، أو ينعت بكنهه ، أو يفهم شيء من أمره ، أو
--------------------------------------------------------------------------------
(1) ثواب الأعمال : 243 .
(2) إعلام الدين : 447 .
(18) ··· العين الساهرة في الآيات الباهرة
--------------------------------------------------------------------------------
يوجد من يقوم مقامه ، ويغنى غناه ، لا كيف وأ نّى وهو بحيث النجم من يد
المتناولين ، ووصف الواصفين ، فأين الاختيار من هذا ؟ وأين يوجد مثل هذا ؟ !
عن الإمام الصادق في قوله تعالى : « وَللّه‏ِ الأسْمَاءُ الحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا »(1)
قال : نحن واللّه‏ الأسماء الحسنى التي لا يقبل اللّه‏ من العباد عمل إلاّ بمعرفتنا(2) .
وما أكثر النصوص الدينية في هذا المضمار ، فإنّما يُعرف اللّه‏ ويعبد بمعرفة
إمام الزمان ، فهو الوسيط في الفيض المقدّس النزولي ، والعمل الطيّب الصعودي .
( فمن عرف واجب حقّ إمامه وجد طعم حلاوة إيمانه ، وعلم فضل طلاوة
إسلامه )(3) .
الكافي بسنده عن أبي عبد اللّه‏ الإمام الصادق عليه‏السلام في خطبة له يذكر فيها
حال الأئمة عليهم‏السلام وصفاتهم أنّ اللّه‏ عزّ وجلّ أوضح بأئمة الهدى من أهل بيت نبيّنا
عن دينه ، وأبلج بهم عن سبيل منهاجه ، فتح بهم عن باطن ينابيع علمه ، فمن عرف
من اُمّة محمّد صلى‏الله‏عليه‏و‏آله واجب حقّ إمامه ، وجد طعم حلاوة إيمانه ، وعلم فضل طلاوة
إسلامه ـ الطلاوة الحسن والبهجة والقبول ـ لأنّ اللّه‏ تبارك وتعالى نصب الإمام علما
لخلقه ، وجعله حجّةً على أهل موادّه وعالمه ، وألبسه اللّه‏ تاج الوقار ، وغشّاه من نور
الجبّار ، يمدّ سبب إلى السماء ، لا ينقطع عنه موادّه ، ولا ينال ما عقد اللّه‏ إلاّ بجهة
أسبابه ، ولا يقبل اللّه‏ أعمال العباد إلاّ بمعرفته(4) ...
--------------------------------------------------------------------------------
(1) الأعراف : 180.
(2) الكافي 1 : 143 .
(3) الكافي 1 : 203 .
(4) الكافي 1 : 303 .
تقديم ··· (19)
--------------------------------------------------------------------------------
وعنه عليه‏السلام قال : ما جاء به عليّ عليه‏السلام آخذ به ، وما نهى عنه أنتهي عنه ، جرى
له من الفضل مثل ما جرى لمحمّد صلى‏الله‏عليه‏و‏آله ، ولمحمّد صلى‏الله‏عليه‏و‏آله الفضل على جميع من خلق
اللّه‏ عزّ وجلّ ، المتعقّب عليه في شيء من أحكامه كالمتعقّب على اللّه‏ وعلى رسوله ،
والرادّ عليه صغيرة أو كبيرة على حدّ الشرك باللّه‏ ، كان أمير المؤمنين عليه‏السلام باب اللّه‏
الذي لا يؤتى إلاّ منه ، وسبيله الذي من سلك بغيره هلك ، وكذلك يجري لأئمة
الهدى واحدا بعد واحد ، جعلهم اللّه‏ أركان الأرض أن تميد بأهلها ، وحجّته البالغة
على من فوق الأرض ومن تحت الثرى(1) ...
والكافي أيضا بسنده عن أبي خالد الكابلي قال : سألت أبا جعفر عليه‏السلام عن
قول اللّه‏ عزّ وجلّ : « فَآمِنُوا بِاللّه‏ِ وَرَسُولِهِ وَالنُّورِ الَّذِي أنزَلْنَا »(2) فقال : يا أبا
خالد ، النور واللّه‏ نور الأئمة من آل محمّد صلى‏الله‏عليه‏و‏آله إلى يوم القيامة ، وهم واللّه‏ نور اللّه‏
الذي اُنزل ، وهم واللّه‏ نور اللّه‏ في السماوات وفي الأرض ، واللّه‏ يا أبا خالد لنور
الإمام في قلوب المؤمنين أنور من الشمس المضيئة بالنهار ، وهم واللّه‏ ينوّرون
قلوب المؤمنين ، ويحجب اللّه‏ عزّ وجلّ نورهم عمّن يشاء فتظلم قلوبهم ، واللّه‏ يا أبا
خالد لا يحبّنا عبد ويتولاّنا حتّى يطهّر اللّه‏ قلبه ، ولا يطهّر اللّه‏ قلب عبد حتّى يسلّم
لنا ، ويكون سلما لنا ، فإذا كان سلما لنا سلّمه اللّه‏ من شديد الحساب ، وآمنه من
فزع يوم القيامة الأكبر(3) .
وأئمة الحقّ من بعد رسول اللّه‏ خلفاؤه في اُمّته وخلفاء اللّه‏ في أرضه ،
--------------------------------------------------------------------------------
(1) المصدر : 196 .
(2) التغابن : 8 .
(3) المصدر : 194 .
(20) ··· العين الساهرة في الآيات الباهرة
--------------------------------------------------------------------------------
ولولاهم ما عُرف اللّه‏ عزّ وجلّ ، وبهم احتجّ اللّه‏ تبارك وتعالى على خلقه ، فإنّهم ولاة
أمر اللّه‏ وخزنة علمه وعيبة وحيه ، والحجّة البالغة على من دون السماء ومن فوق
الأرض ، وهذا من لوازم الإمامة التكوينية التي أشرنا إليها ، ولكلّ قومٍ هاد ، يهديهم
إلى ما جاء به نبيّ اللّه‏ صلى‏الله‏عليه‏و‏آله ، ثمّ الهداة من بعده أمير المؤمنين عليّ عليه‏السلام ، ثمّ الأوصياء
الخلفاء واحد بعد واحد ليكونوا شهداء على الناس وعلى خلقه ، قد فرض اللّه‏
طاعتهم وولايتهم والبراءة من أعدائهم .
ومن أراد أن يعرف إمام زمانه حتّى لا يموت ميتة الجاهلية ، ميتة كفر
وضلال ، لا بدّ أن يعرف الأوّل من الأئمة الأطهار عليهم‏السلام .
الكافي بسنده عن أحدهما عليهماالسلام أ نّه قال : لا يكون العبد مؤمنا حتّى يعرف
اللّه‏ ورسوله والأئمة كلّهم ، وإمام زمانه ، ويردّ إليه ويسلّم له ، ثمّ قال : كيف يعرف
الآخر وهو يجهل الأوّل ؟ !(1) .
ومن أتى البيوت من أبوابها اهتدى ، ومن أخذ في غيرها سلك طريق الردى ،
فالتمسوا البيوت التي أذن اللّه‏ أن تُرفع ويُذكر فيها اسمه ، وما اهتدى من أبصر
وعقل .
« إنّ اللّه‏ عزّ وجلّ يقول : « فَإنَّهَا لا تَعْمَى الأ بْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى القُلُوبُ الَّتِي
فِي الصُّدُورِ »(2) وكيف يهتدي من لم يبصر ؟ وكيف يبصر من لم يتدبّر ؟ اتّبعوا
رسول اللّه‏ وأهل بيته ، وأقرّوا بما نزل من عند اللّه‏ واتّبعوا آثار الهدى ، فإنّهم علامات
الأمانة والتقى ... »(3) .
--------------------------------------------------------------------------------
(1) الكافي 1 : 180 .
(2) الحجّ : 46 .
(3) المصدر : 182 .
تقديم ··· (21)
--------------------------------------------------------------------------------
ثمّ المعرفة من الكلّي التشكيكي لها مراتب اُفقيّة وعموديّة ، ومن أعلى
المراتب : المعرفة النورانيّة .
روي عن محمّد بن صدقة أ نّه ـ في حديث طويل ـ : سأل أبو ذرّ الغفاري
سلمان : يا أبا عبد اللّه‏ ، ما معرفة الإمام أمير المؤمنين عليه‏السلام بالنورانيّة ؟ قال : يا
جندب ، فامضِ بنا حتّى نسأله عن ذلك ، قال : فأتيناه فلم نجده . قال : فانتظرناه
حتّى جاء ، قال صلوات اللّه‏ عليه : ما جاء بكما ؟ قالا : جئناك يا أمير المؤمنين
نسألك عن معرفتك بالنورانية ، قال صلوات اللّه‏ عليه : مرحبا بكما من وليّين
متعاهدين لدينه ، لستما بمقصّرين ، لعمري إنّ ذلك الواجب على كلّ مؤمن ومؤمنة .
ثمّ قال صلوات اللّه‏ عليه : يا سلمان ويا جندب ، قالا : لبّيك يا أمير المؤمنين . قال
عليه‏السلام : إنّه لا يستكمل أحد الإيمان حتّى يعرفني كنه معرفتي بالنورانية ـ حسب
الطاقة البشرية ـ فإذا عرفني بهذه المعرفة فقد امتحن اللّه‏ قلبه للإيمان ، وشرح صدره
للإسلام ، وصار عارفا مستبصرا ، ومن قصّر عن معرفة ذلك فهو شاكّ ومرتاب ...
يا سلمان يا جندب ، قالا : لبّيك يا أمير المؤمنين . قال عليه‏السلام : معرفتي
بالنورانيّة معرفة اللّه‏ عزّ وجلّ ، ومعرفة اللّه‏ عزّ وجلّ معرفتي بالنورانيّة ، وهو الدين
الخالص الذي قال اللّه‏ تعالى : « وَمَا اُمِرُوا إلاَّ لِـيَـعْـبُدُوا اللّه‏َ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ
حُـنَـفَاءَ وَيُـقِـيمُوا الصَّلاةَ وَيُـؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ القَـيِّمَةِ »(1) ...
الحذار الحذار لمن لم يعرف الأئمة من بعد رسول اللّه‏ صلى‏الله‏عليه‏و‏آله فقد ضلّ وأضلّ ،
وكان شقيّا ، قد خسر الدنيا والآخرة ، وذلك هو الخسران المبين .
عن جابر عن أبي جعفر عليه‏السلام قال : قال : لمّا نزلت هذه الآية : « يَوْمَ نَدْعُو
--------------------------------------------------------------------------------
(1) البيّنة : 5 .
(22) ··· العين الساهرة في الآيات الباهرة
--------------------------------------------------------------------------------
كُلَّ اُ نَاسٍ بِإمَامِهِمْ »(1) قال المسلمون : يا رسول اللّه‏ ألست إمام الناس كلّهم
أجمعين ؟ قال : فقال رسول اللّه‏ صلى‏الله‏عليه‏و‏آله : أنا رسول اللّه‏ إلى الناس أجمعين ، ولكن
سيكون من بعدي أئمة على الناس من اللّه‏ من أهل بيتي ، يقومون في الناس
فيُكذّبون ، ويظلمهم أئمة الكفر والضلال وأشياعهم ، فمن والاهم واتّبعهم وصدّقهم
فهو منّي ومعي وسيلقاني ، ألا ومن ظلمهم وكذّبهم فليس منّي ولا معي وأنا منه
بريء(2) .
« فَاسْأ لُوا أهْلَ الذِّكْرِ إنْ كُنتُمْ لا تَعْلَمُونَ »(3) ، ما لكم كيف تحكمون ؟ !
« اتَّـقُوا اللّه‏َ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ »(4) ، ليس إلاّ محمّد وآله الأئمة
المعصومين الطاهرين عليهم‏السلام .
عن أبي جعفر عليه‏السلام قال : قال رسول اللّه‏ صلى‏الله‏عليه‏و‏آله : من أحبّ أن يحيى حياة تشبه
حياة الأنبياء ، ويموت ميتة تشبه ميتة الشهداء ، ويسكن الجنان التي غرسها
الرحمن ، فليتولّ عليّا وليوالِ وليّه ، وليقتدِ بالأئمة من بعده ، فإنّهم عترتي خلقوا من
طينتي ، اللهمّ ارزقهم فهمي وعلمي ، وويل للمخالفين لهم من اُمّتي ، اللهمّ لا تنلهم
شفاعتي(5) .
« وَمَا تُغْنِي الآيَاتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ »(6) ، فإنّهم غصبوا حقّ أمير
--------------------------------------------------------------------------------
(1) الإسراء : 71 .
(2) الكافي 1 : 215 .
(3) الأنبياء : 7 .
(4) التوبة : 119 .
(5) الكافي 1 : 208 .
(6) يونس : 101 .
تقديم ··· (23)
--------------------------------------------------------------------------------
المؤمنين عليّ عليه‏السلام ولم يألوا جهدا في ظلمه ونهب تراثه ، ومنع أمره وقطع رحمه .
عنه روحي فداه وقد قال قائل : إنّك على هذا الأمر يا ابن أبي طالب
لحريص ، فقال عليه‏السلام : بل أنتم واللّه‏ أحرص وأبعد ، وأنا أخصّ وأقرب ، وإنّما طلبت
حقّا لي وأنتم تحولون بيني وبينه ، وتضربون وجهي دونه ... اللهمّ إنّي أستعديك على
قريش ومن أعانهم ! فإنّهم قطعوا رحمي ، وصغّروا عظيم منزلتي ، وأجمعوا على
منازعتي أمرا هو لي(1) .
ومن كتاب له إلى معاوية : وقلت إنّي كنت اُقاد كما يقاد الجمل المخشوش
حتّى اُبايع ، ولعمر اللّه‏ لقد أردت أن تذمّ فمدحت ، وأن تفضح فافتضحت ، وما على
المسلم من غضاضة في أن يكون مظلوما ما لم يكن شاكّا في دينه ، ولا مرتابا
بيقينه(2) .
ويقول ابن أبي الحديد المعتزلي : اعلم أ نّه قد تواترت الأخبار عنه عليه‏السلام بنحوٍ
من هذا القول ، نحو قول : ما زلت مظلوما منذ قبض اللّه‏ رسوله حتّى يوم الناس
هذا . وقوله : « اللهمّ أخزِ قريش فإنّها منعتني حقّي وغصبتني أمري » ، وقوله :
« فجزى قريشا عنّي الجوازي ، فإنّهم ظلموني حقّي ، واغتصبوني سلطان ابن اُمّي » ،
وقوله : « وقد سمع صارخا ينادي : أنا مظلوم ، فقال : هلمّ فلنصرخ معا ، فإنّي ما
زلت مظلوما » ، وقوله في الخطبة الشقشقيّة : « وإنّه ليعلم أنّ محلّي منها محلّ القطب
من الرحى » ، وقوله : « أرى تراثي نهبا » ، وقوله : « أصفياها بإنائنا ، وحملا الناس
على رقابنا » ، وقوله : « إنّ لنا حقّا إن نعطه نأخذه ، وإن نمنعه نركب أعجاز الإبل
--------------------------------------------------------------------------------
(1) شرح نهج البلاغة ؛ ابن أبي الحديد 9 : 305 .
(2) المصدر 15 : 183 .
(24) ··· العين الساهرة في الآيات الباهرة
--------------------------------------------------------------------------------
وإن طال السرى » ، وقوله : « ما زلت مستأثرا عليَّ مدفوعا عمّا أستحقّه
وأستوجبه »(1) .
وقال عليه‏السلام : فدع عنك قريشا في الضلال ... فإنّهم قد أجمعوا على حربي
كإجماعهم على حرب رسول اللّه‏ صلى‏الله‏عليه‏و‏آله قبلي ، فجزت قريشا عنّي الجوازي ! فقد
قطعوا رحمي ، وسلبوني سلطان ابن اُمّي(2) .
أجل غصبوا حقّ أمير المؤمنين عليّ عليه‏السلام وأبعدوه عن إمامته القيادية
والسياسيّة ، وعن الخلافة الحقّة ، وجرى ظلم خلفاء الجور عليه وعلى أولاده
الأئمة المعصومين عليهم‏السلام من قبل بني اُميّة وبني العباس ، وحتّى يومنا هذا ، إلاّ أ نّه
سينتقم منهم المهدي من آل محمّد عليهم‏السلام ، ويملأ الأرض قسطا وعدلاً بعدما ملئت
ظلما وجورا ...
ثمّ ما سكت أمير المؤمنين عليه‏السلام عن حقّه ـ عن الإمامة والخلافة بالمعنى
الأوّل ـ إلاّ حفاظا على الإسلام ، كما أشار إلى ذلك في مواطن عديدة :
قال عليه‏السلام : « وأيم اللّه‏ لولا مخافة الفرقة من المسلمين أن يعودوا إلى الكفر ،
ويعود الدين ، لكنّا قد غيّرنا ذلك ما استطعنا » .
وقال عليه‏السلام : فواللّه‏ ما كان يلقي في روحي ، ولا يخطر ببالي أنّ العرب تزعج
هذا الأمر من بعده صلى‏الله‏عليه‏و‏آله عن أهل بيته ، ولا أ نّهم مُنحّوه عنّي من بعده ... حتّى رأيت
راجعة من الناس قد رجعت عن الإسلام يدعون إلى محق دين محمّد صلى‏الله‏عليه‏و‏آله فخشيت
إن لم أنصر الإسلام وأهله ، أن أرى فيه ثلما أو هدما تكون المصيبة به عليَّ
--------------------------------------------------------------------------------
(1) المصدر 9 : 306 ـ 307 .
(2) المصدر 16 : 149 .
تقديم ··· (25)
--------------------------------------------------------------------------------
أعظم(1) .
هذا والحديث عن هذا الأمر الصعب المستصعب يطول ويطول ، إلاّ أ نّي أدعو
الناس جميعا إلى معرفة الحقّ ، كما أدعو المسلمين كلّهم إلى معرفة إمام زمانهم حقّ
المعرفة ، وإلاّ فمن لم يعرف إمام زمانه مات ميتة الجاهلية والكفر ، فلا يكمل في
توحيده ولا في معرفة نبوّته ، ولا في صحّة عباداته وأفعاله ، وقفوهم إنّهم
مسؤولون ، فعمّا يسأل الربّ الجليل ، وما يكون الجواب ؟ !
ولا يزال هذا الدين قائما حتّى يكون عليكم اثنا عشر خليفة كلّهم من
قريش . ولا بدّ لكلّ واحدٍ منّا من عرض دينه ومعتقداته على كتاب اللّه‏ وسنّة نبيّه
ومنهاج الإمام في زمانه ، كما فعل سيّدنا عبد العظيم الحسني .
قال : دخلت على سيّدي عليّ بن محمّد عليهماالسلام ، فلمّا بصر بي قال لي : مرحبا
بك يا أبا القاسم ، أنت وليّنا حقّا ، فقلت له : يا ابن رسول اللّه‏ إنّي اُريد أن أعرض
عليك ديني ...
إنّي أقول : إنّ اللّه‏ تبارك وتعالى واحد ... وإنّ محمّدا عبده ورسوله خاتم
النبيّين ، فلا نبيّ بعده إلى يوم القيامة ...
وأقول : إنّ الإمام والخليفة ووليّ الأمر بعده أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب
عليه‏السلام ، ثمّ الحسن ، ثمّ الحسين ، ثمّ عليّ بن الحسين ، ثمّ محمّد بن علي ، ثمّ جعفر بن
محمّد ، ثمّ موسى بن جعفر ، ثمّ عليّ بن موسى ، ثمّ محمّد بن عليّ ، ثمّ أنت يا
مولاي .
فقال عليه‏السلام : ومن بعد الحسن ابني ، فكيف للناس بالخلف من بعده ؟ فقلت :
--------------------------------------------------------------------------------
(1) شرح نهج البلاغة ؛ ابن أبي الحديد 17 : 150 .
(26) ··· العين الساهرة في الآيات الباهرة
--------------------------------------------------------------------------------
وكيف ذلك يا مولاي ؟ قال : لأ نّه لا يرى شخصه ، ولا يحلّ ذكره باسمه ، حتّى
يخرج فيملأ الأرض قسطا وعدلاً ... فقال : يا أبا القاسم هذا واللّه‏ دين اللّه‏ الذي
ارتضاه لعباده ـ إشارة إلى آية الإكمال ـ فاثبت عليه ثبّتك اللّه‏ بالقول الثابت في
الحياة الدنيا وفي الآخرة(1) .
وعن رسول اللّه‏ صلى‏الله‏عليه‏و‏آله في قوله تعالى : « يَوْمَ نَدْعُو كُلَّ اُ نَاسٍ بِإمَامِهِمْ »(2) ،
قال صلى‏الله‏عليه‏و‏آله : يدعى كلّ قوم بإمام زمانهم ، وكتاب اللّه‏ وسنّة نبيّه(3) .
وقال سبطه الإمام الحسين عليه‏السلام في قوله تعالى : « يَوْمَ نَدْعُو كُلَّ اُ نَاسٍ
بِإمَامِهِمْ » إمام دعى إلى هدى فأجابوه إليه ، وإمام دعى إلى ضلالة فأجابوه إليها ،
هؤلاء في الجنّة ، وهؤلاء في النار وهو قوله عزّ وجلّ : « فَرِيقٌ فِي الجَنَّةِ وَفَرِيقٌ
فِي السَّعِيرِ »(4) (5) .
وعن ولده زين العابدين عليه‏السلام : اللهمّ إنّك أيّدت دينك في كلّ أوان بإمام أقمته
علما لعبادك ، ومنارا في بلادك ، بعد أن وصلت حبله بحبلك ، وجعلته الذريعة إلى
رضوانك(6) .
وسئل الإمام الحسين عليه‏السلام : ما معرفة اللّه‏ ؟ قال : معرفة أهل كلّ زمان إمامهم
--------------------------------------------------------------------------------
(1) البحار 69 : 1 .
(2) الإسراء : 71 .
(3) البحار 8 : 10 .
(4) الشورى : 7 .
(5) المصدر 3 : 192 .
(6) المصدر نفسه .
تقديم ··· (27)
--------------------------------------------------------------------------------
الذي يجب عليهم طاعته(1) .
ويقول الإمام الباقر عليه‏السلام : إنّما يعرف اللّه‏ عزّ وجلّ ويعبده من عرف اللّه‏
وعرف إمامه منّا أهل البيت(2) .
عن محمّد بن منصور ، قال : سألت عبدا صالحا ـ الإمام الكاظم عليه‏السلام ـ عن
قوله اللّه‏ عزّ وجلّ : « قُلْ إنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ »(3)
فقال : إنّ القرآن له ظهر وبطن ، فجميع ما حرّم اللّه‏ في القرآن هو الظاهر ، والباطن
من ذلك أئمة الجور ، وجميع ما احلّ اللّه‏ تعالى في كتاب هو الظاهر والباطن من ذلك
أئمة الحقّ(4) .
ويقول الإمام الصادق عليه‏السلام : نحن أصل كلّ خير ، ومن فروعنا كلّ برّ ، فمن
البرّ : التوحيد والصلاة والصيام وكظم الغيظ ، والعفو عن المسيء ، ورحمة الفقير ،
وتعهّد الجار ، والإقرار بالفضل لأهله ، وعدوّنا أصل كلّ شرّ ، ومن فروعهم كلّ قبيح
وفاحشة فمنهم الكذب ، والبخل ، والنميمة ، والقطيعة وأكل الربا وأكل مال اليتيم بغير
حقّ ، وتعدّي الحدود التي أمر اللّه‏ ، وركوب الفواحش ما ظهر منها وما بطن ، والزنا
والسرقة ، وكلّ ما وافق ذلك من القبيح ، فكذب من زعم أ نّه معنا وهو متعلّق بفروع
غيرنا(5) .
--------------------------------------------------------------------------------
(1) البحار 23 : 83 .
(2) الكافي 1 : 181 .
(3) الأعراف : 33 .
(4) الكافي 1 : 374 .
(5) الكافي : الخبر 336 .
(28) ··· العين الساهرة في الآيات الباهرة
--------------------------------------------------------------------------------
وعنه عليه‏السلام : بني الإسلام على خمسة أشياء : على الصلاة والزكاة والحجّ
والصوم والولاية . قال زرارة : فقلت : وأيّ شيء من ذلك أفضل ؟ فقال : الولاية
أفضل لأ نّها مفتاحهنّ ، والوالي هو الدليل عليهنّ(1) .
قال رسول اللّه‏ صلى‏الله‏عليه‏و‏آله : والذي بعثني بالحقّ نبيّا ، لو أنّ رجلاً لقي اللّه‏ بعمل
سبعين نبيّا ثمّ لم يأتِ بولاية وليّ الأمر من أهل البيت ، ما قبل اللّه‏ منه صرفا ولا
عدلاً(2) .
وقال صلى‏الله‏عليه‏و‏آله : كلّ من دان اللّه‏ عزّ وجلّ بعبادة يجهد فيها نفسه ، ولا إمام له من
اللّه‏ ، فسعيه غير مقبول ، وهو ضالّ متحيّر ، واللّه‏ شانئ لأعماله ، ومثله كمثل شاة
ضلّت عن راعيها وقطيعها(3) .
وختاما ، لمست أناملي الداثرة كتابا قيّما خالدا بخلود إخلاص مؤلّفه
ومنمّقه ، فضيلة العلاّمة الحجّة الشيخ مهدي عباس البحراني دامت إفاضاته ، فقد
سلك سبيل السلف الصالح في جُهده وجهاده ، وصرف عمره الشريف في تحصيل
المعارف والعلوم الدينية ، وتهذيب الملكات النفسانية ، ونال مرتبة سامية من الفضل
والكمال ، كما شهد بذلك سيّدنا الاُستاذ الآية العظمى السيّد محمّد رضا الگلپايگاني
قدس‏سره ، وقد حاز السبق من بين أقرانه وزملائه ، وجرى العلم من بين بنانه ، وجاد
يراعه بمعارف القرآن الكريم وعلوم محمّد وآله عليهم‏السلام .
وأخيرا وليس بآخر إن شاء اللّه‏ تعالى قد أتحف المكتبة العربية الإسلامية
--------------------------------------------------------------------------------
(1) الكافي 2 : 182 .
(2) أمالي المفيد : 7 .
(3) الكافي 1 : 183 .
تقديم ··· (29)
--------------------------------------------------------------------------------
بكتابه الآخر ( الآيات الباهرة في العترة الطاهرة ) ليرفع الحجب والستار مرّة اُخرى
عن الحقائق الساطعة والبراهين المشرقة الدالّة على خلافة أمير المؤمنين والعترة
الهادية ، التي كسفتها سحابات الجهل والضلال ، وخسفتها غيوم العناد والإلحاد .
ثمّ التمس منّي أن اُقرّظ كتابه فأجبت مأموله ، فسرحت بريد النظر وأجلت
فيه البصر ، فألفيته كتابا نافعا يمتاز بحسن البيان ، وقوّة البرهان ، والإحاطة بدقائق
البحوث في كلّ موضوع ، قويما في طرحه ، لطيفا في اُسلوبه ، سلسا في بيانه ،
جزى اللّه‏ جامعه وناسقه خير الجزاء ، وهنّأه وإيّانا بالكأس الأوفى من يد مولانا
أمير المؤمنين عليّ عليه‏السلام شربةً لا ظمأ بعدها أبدا ، وأسكننا فسيح جنانه ، في مقعد
صدقٍ عند مليكٍ مقتدر .
وللّه‏ درّه وعليه أجره بما تجشّمه من عناء البحث والتنقيب في تأليف هذه
البحوث القيّمة ، راجيا من المولى القدير سبحانه وتعالى أن يأخذ بيده ، ليكمل
الأشواط التي افتتحها بهذه الدراسة والتي من قبلها ، بإنجاز مجموعة اُخرى من
البحوث العقائدية ، وردّ الشبهات والتشكيكات ، فإنّ الاُمّة لا سيّما شبابنا الواعي
متعطّش في عصرنا هذا ـ عصر الصحوة الإسلامية ـ إلى المعارف الإلهية والعلوم
الإسلامية ، ولا سيّما الأجوبة الشافية والكافية بما تعيشها من شبهات وتساؤلات
في العقائد والعرفان والفلسفة .
وإنّي إذ اُبارك له هذا الجهد الولائي والخطوة العلمية التي ينتفع بها أهل العلم
والشباب المثقّف ، أملي به وبرجال الدين أن يكملوا الشوط ، ولا تعوقهم العوائق ،
سائلاً العليّ الأعلى أن يجعله قدوة صالحة لإخوانه وزملائه ، وأن يوفّقه لخدمة
الدين الحنيف ومذهب الحقّ ، وللجدّ في عمله التبليغي والثقافي والاستمرار في
نشاطه الديني والاجتماعي ، لينتفع بوجوده وجهوده المؤمنون في أقطار الأرض ،
(30) ··· العين الساهرة في الآيات الباهرة
--------------------------------------------------------------------------------
ولا سيّما في بلاده ، جعله اللّه‏ من أهل البيت من اُولئك الذين قال عنهم مولانا الإمام
الصادق عليه‏السلام : « إنّ العلماء ورثة الأنبياء ، وذاك أنّ الأنبياء لم يورثوا درهما ولا
دينارا ، وإنّما أورثوا أحاديث من أحاديثهم ، فمن أخذ بشيء منها فقد أخذ حظّا
وافرا ، فانظروا علمكم هذا عمّن تأخذونه ، فإنّ فينا أهل البيت في كلّ خلف عدولاً
ينفون عنه تحريف الغالين ، وانتحال المبطلين ، وتأويل الجاهلين » .
وعن معاوية بن عمّار ، قال : قلت لأبي عبد اللّه‏ الإمام الصادق عليه‏السلام : رجل
راوية لحديثكم يثبت ذلك في الناس ، ويشدّده في قلوبكم وقلوب شيعتكم ، ولعلّ
عابد من شيعتكم ليست له هذه الرواية ، أ يّهما أفضل ؟
قال عليه‏السلام : الرواية لحديثنا يشدّ به قلوب شيعتنا أفضل من ألف عابد .
وعن أمير المؤمنين علىّ عليه‏السلام أ نّه قال : قلت : يا رسول اللّه‏ ، من خلفاؤك ؟
قال صلى‏الله‏عليه‏و‏آله : الذين يأتون بعدي ويروون حديثي وسنّتي .
وفي الحديث النبوي الشريف : ما من مؤمن يقعد ساعة عند العالم ، إلاّ ناداه
ربّه عزّ وجلّ : جلست إلى حبيبي ، وعزّتي وجلالي لاُسكننّك معه ولا اُبالي .
قال رسول اللّه‏ صلى‏الله‏عليه‏و‏آله : يجيء الرجل يوم القيامة وله من الحسنات كالسحاب
الركام ، أو كالجبال الرواسي ، فيقول : يا ربّ ، أ نّى لي هذا ولم أعملها ؟ فيقول : هذا
علمك الذي علّمته الناس يعمل به من بعدك .
وفي إكمال الدين بسنده عن مولانا وإمامنا المنتظر الحجّة الثاني عشر عليه
السلام وعجّل اللّه‏ فرجه : وأمّا الحوادث الواقعة فارجعوا فيها إلى رواة حديثنا ،
فإنّهم حجّتي عليكم ، وأنا حجّة اللّه‏ عليهم .
وورد في الحديث المعتبر : اعرفوا منازل الرجال على قدر رواياتهم عنّا .
وفي آخر : اعرفوا منازل شيعتنا بقدر ما يحسنون من رواياتهم عنّا ، فإنّا لا نعدّ
تقديم ··· (31)
--------------------------------------------------------------------------------
الفقيه منهم فقيها حتّى يكون محدّثا ، فقيل له : أوَ يكون المؤمن محدّثا ؟ قال :
يكون مفهمّا ، والمفهّم محدّث .
هذا وقد أجزت لسماحة المؤلّف الشيخ البحراني دام عزّه أن يروي عنّي ما
صحّت لي روايته من مشايخي وطرقي الخاصّة(1) من مصنّفات أصحابنا وما رووه
بأسانيدهم المعتبرة المنتهية إلى أرباب الجوامع الحديثية من المحامد الثلاثة الثانية
والاُولى ، ومنهم إلى أهل بيت النبوّة ، والعترة الطاهرة ، وموضع الرسالة ومعدن
العصمة ومهبط الوحي عليهم صلوات اللّه‏ وسلامه أبد الآبدين . واُوصيه وكلّ
المؤمنات والمؤمنين ، ولا سيّما رجال الدين ، بملازمة الورع والزهد والإخلاص ،
وأن لا تغرّهم الدنيا الدنيّة ، فإنّها سوق ربح فيها قوم وخسر آخرون ، وإنّها كالبحر
العميق غرق فيه عالم كثير ، لا ينجو منها إلاّ من تمسّك بالعروة الوثقى ، القرآن
الكريم والعترة الطاهرة ، وركب سفينة التقوى وخاف مقام ربّه ونهى النفس عن
الهوى ، فإنّ الجنّة هي المأوى .
ثمّ لا تنساني من صالح دعواتك كما لا أنساك ، واللّه‏ الموفّق للخير والصواب ،
فله الحمد أبدا ، أوّلاً وآخرا .
العبد
عادل بن السيّد علي العلوي
قم المقدّسة ـ الحوزة العلمية
10 شعبان المعظّم 1423 ه ق
--------------------------------------------------------------------------------
(1) ذكرتهم في كتاب ( أوراق من العمر ) ، مطبوع ، فراجع .
(32) ··· العين الساهرة في الآيات الباهرة
--------------------------------------------------------------------------------
(33)
بعد  فهرست  قبل 
نسخ الرابط :  
 ." جميع الحقوق محفوظة للمؤسسة الإسلامِة العالمية " التبليغ و الإرشاد .
   
العربية    فارسي    English